.

.

أنا والعذاب وهواك

Wednesday, May 29, 2013

 أنا والعذاب وهواك
          قصة قصيرة



تحت سقف حجرتها
وبين جدرانها الصماء
وفوق فراشها البارد
نامت مستلقية على جنبها
وضعت يدها تحت خدها
لاتحرك لها طرف
وكأنها تجمدت على سريرها
كيف له أن يهجرها طيلة هذه المدة
طال غيابه
ولم يبرر أسبابه
يذهب وقتما يذهب
 ويعود وقتما يعود
كيف ترضى لنفسها بهذا العذاب
أما آن لها أن تستريح
من عشق يقتلها ويستبيح
منها كل شيئ
عقلها وقلبها وجسدها وعمرها
أما آن لها الخلاص
من فكر يحطم عقلها
ومن وجد يمزق قلبها
ومن نار تنهش جسدها
ومن أيام تأكل من سنوات عمرها ولا تشبع
طال غيابه 
وطال انتظارها
أصبحت تكره هذا الانتظار
الذي
يُشتتها
يُبددها
يُفتتها
إلى ألاف من قطع الموزاييك المُبعثرة
التي تنتظر  جمعها وتركيبها وتعشيقها 
بين أصابعه التي تعرف سر تجميعها
فيحولها بين يديه الى لوحة فسيفسائية رائعة
ثم يبعثرها مرة أخرى بغيابه المتكرر 
إنه
يفعل بها مايفعل
دون رحمة أو شفقة منه
يقتلها كل يوم ويُحييها
بغيابه عنها
يتركها
وحيدة
ضعيفة
تصارع وحدتها
طال غيابه
ولم يكلمها
لم يطمئنها
أين.. أنتَ..؟
أين ..أنتَ..؟
فما حياتي انا ... ان لم تكن أنت فيها
هل هكذا يفعل الأحباء بمن أحبوهم
هل هذا من فعل العاشقين
أم من فعل الشياطين..
أين .. أنتَ..؟
أين ..أنتَ..؟
ظلت ترددها
وفجأة 
توقفت
إنتبهت
سمعت
صوت مقبض باب حجرة نومها وهو يُفتح
حدثت نفسها.. إني لأجد ريح يوسف
عرفته من خطى قدميه على الأرض 
فخطاه  حانية 
حتى لا توقظها
حتى لاتزعجها
هكذا اعتاد عندما يعود
ويظن أنها نائمة
ولكنها متى عرفت النوم وصاحبته؟
منذ زمن بعيد خاصمت النوم وعادته
وبرغم سكونه وحركته الشديدة الهدوء 
فهي تشعر به وهي مغمضة العينين
دون أن تراه
وهو يتحرك من جانب لأخر داخل الحجرة
يخلع ساعته عن معصمة
يحل ربطة عنقه 
يفك أزرار قميصه
يبدل ملابسه
يتجه الى فراشها
فتسعد
وتفرح
وتطمئن
وهو يستلقي بجانبها
كسفينة تُلقي بمرساها
على مرفأ عمرها المهجور
كقمر يؤنس سماها
في وحشة ليلها المقبور
يحتضنها من الخلف.. يضمها اليه
تشعر بدفئ حرارة جسده  تسري الي جسدها
فتُحييها بعد موتها
يدفس وجهه بين خصلات شعرها

شهيقه وزفيره
يهمسان بأسمها
يسبحان بحبها
بحبك
بحبك
بحبك
يقبلها قبلة ناعمة
قبلة دافئه طويلة
تشم منه عطره
فيعيد لها ربيعها
بعد خريف طويل
وسنوات غافلتها وسقطت من شجرة عمرها
لاتصدق نفسها أنه عاد
هكذا في كل مرة لاتصدق نفسها
هل تقفز من فراشها
فتُلقي بنفسها في حضنه
كطفلة متلهفة لأبيها بعد غيبة
أم تفعل معه كمن تضم ابنها الغائب سنين طوال 
وتنهال عليه بقبلاتها وألف ألف سؤال
تسأله
تعاتبه
لماذا غبت؟
ولماذا طالت غيبتك ؟

لا..لا

لن تفعل معه شيئاً  من هذا 
لقد تَعِبت
وملت
ويئست
تريد ان تستريح

هذه المره

قررت أن  تواجهه
أن توبخه
أن تعنفه
أن تلعنه عشرات المرات
مئات المرات
بل ألاف المرات
ستلعنه بقدر صبرها
وانتظارها 
وعشقها
وعجزها
ستلعنه 
وتسأله الرحيلَ
عن قلبها وعقلها
و فكرها وخيالها
وعينها وسمعها
وروحها وجسدها
ستقول له
 أرحل إلى الأبد
أرفع مرساك وأرحل
عود من حيث جئت
والي أخر نقطة في الكون اذهب
إن شئت
لا أريدك في حياتي
لقد تعبت منكَ
هل  جزائي معك
أنني أحببتك
فهجرتني
وتركتني
وسلبتني
وجردتني
من متعة الوجود معك 
ستقول له 
أرحل الى الأبد
ولا تأتي إلى 
ليلاً أو نهاراً
خفية أو جهاراً
فلن استطيع معك صبراً بعد اليوم
سأفعل ذلك الأن
وأني لقادرة على ذلك
يجب أن أنهي هذا الأمر الأن
الأن وليس غداً
إستدارات بجسدها كله 
واجهته
وقعت عيناها في عينيه
تجمدت نظرتها
 أدركت أنها
لن تستطيع أن تفعل شيئا ًمما قررته 
لن تنطق ببنت شفة مما نوته 
لن تفعل هذا مع من شغفها حباً
وقتلها عشقاً
أدركت أنها غير قادرة على هذا الفعل
فقط هي قادرة 
أن تسامحه.. أن تغفر له
أن تحتضنه .. أن تقبله  
ظلت تحتضنه وهي تقبله بشوق وعنف
تعاتبه بأهات وأنات وبكاء شديد
وكلمات متقطعه.. مختنقة
تقول له
إلى هذا الحد هانت عليك نفسي
وهان عليك عمري
وهان عليك حبي
فتبكي على صدره
ومن فرط بكائها أغمضت عينيها
وعندما هدأت قليلاً فتحتهما مرة أخرى 
وقد اختلط فيهما الدمع بنظرة تعجب ودهشة 
رأت أنها كانت تحتضن وسادتها
وقد بللها دمعها
ظلت تنظر حولها في خيبة أمل ويأس شديد
ثم قامت
جلست على حافة سريرها في مواجهة تؤامتها
مرآة باهتة لخزانة ملابسها
تنظرإلى نفسها 
سنوات الحزن والفراق والحنين
رسمت على وجهها وجسدها لوحة خريفية
غزا الشيب رأسها
وتهدلت شفتاها
ونسجت التجاعيد خطوطها حول عينيها
ونحلت رقبتها
وبرزت عظام كتفيها على جسدها الهزيل 
وترهل صدرها
وعلى الحائط الجانبي نظرت الى برواز معلق
عليه شريط أسود في زاوية منه
برواز يحمل داخله صورته 
نظرت إليه طويلاً وهي تخبره
انه نفس الحلم
الذي يأتيها فيه طيلة عشر سنوات 
منذ أن رحل مبكراً إلى عالم أخر
وخالف عهده ووعده الذي قطعه على نفسه 
بأن يظل معها في كل محطات العمر
حتى نهاية الرحلة 
زوجاً
وحبيباً 
وونيساً 
ورفيقاً
رحل مبكرا
ولم يترك لها حتى ولداً منه يحمل ملامحة
تنظر له كلما اشتاقت إليه
رحل عنها
وهي لاتملك 
سوى انتظار وهمي منها 
وعودة مستحيله منه 
لاتملك منه سوى هذا الحلم
الذي أتعبها وأنهكها
تنهدت تنهيدة طويلة
ثم قامت من مكانها اتجهت الى  خارج حجرتها
اتجهت الى من يشاركها همها ويبوح معها بحزنها 
بيانو خشبي قديم في ركن قصي من البيت كان قد اشتراه لها في بداية زواجهما
وفوق سطح البيانو صورة صغيرة لهما سويا داخل برواز نحاسي عتيق أنيق
جلست على  كرسي البيانو
فتحت غطائه ثم مدت يدها فوق سطح البيانو 
سحبت لفافة تبغ من علبة سجائرها التي اعتادت تدخينها في سنواتها الأخيرة
أشعلت سيجارتها ولم تحررها من بين شفتيها
 الا وقد إحترقت وقاربت على الإنتهاء
 مثلما احترقت منها سنوات عمرها دون أن تدري
 وقاربت هي الأخرى على الإنتهاء
وبأصابع مرتعشة بدأت تلعب على مفاتيح البيانو

تا را را   را
تا را را   را
أنا والعذاب وهواك
عايشين لبعضينا
ترا را
أخرتها ايه وياك..وياك
أخرتها ايه وياك.. وياك
أخرتها ايه ويااااك ياللي انت ناسيني
ياللي انت ناسينى

حسن أرابيسك