.

.

أربعين ليلة وليلى

Monday, May 10, 2010














قصة قصيرة
إقتربت الساعة ، وانشق الصدر ، وامتد البصر ، ولاح البيت العتيق ، اقتربت الساعة من لقائها اليومي به ، وأنشق الصدر من شوقها إليه ، وامتد البصر من عينيها يقطع مسافات ويخترق حواجز لتراه ، ولاح البيت العتيق لها من بعيد..حيث بيته هناك على أطراف المدينة ينأى بنفسه بعيداً عن زحام العمران وصخب المدينة ،أربعين يوما بالتمام وهي تتردد عليه تعبر عتبات بيته تسابق شوقها ولهفتها ، تبقى معه تبيت ليلها من مغيب الشمس حتى بدايات النهار، أربعين يوماً تغيرت فيها الحياة وتبدلت بداخلها وحولها ، إنسحبت درجات اللون الرمادي من حياتها وحلت مكانها الوان مشرقة، أربعين يوما تبدلت فيها معاني كلمات قاموس حياتها الكئيبة بمعاني أخرى جميلة، أربعين يوماً شعرت فيها أنها أصبحت أميرة من أميرات الحواديت جاءها فارسها وخلفه جيش جرار من مشاعر الحب والحنان والود، أربعين يوماً تلتف حولها فراشات قلبه أينما ذهبت وحلت ، أربعين يوماً شعرت فيها أنها إمراة لها قلب يخفق ويحب ويعشق مثل سائر النساء، عادت لها ثقتها بنفسها، عندما تقف كل يوم أمام مرآتها ترى أنها أصبحت أنثى رائعة، اختفى وتبدل الوجه الحزين بوجه مشرق فاتن جميل ،الجسد تحرر من قوقعته وتمدد خارجها كشجرة باسقة وارفة الأغصان لينة الأوراق ناضجة الثمار بعد أن كادت تذبل وتموت من فرط وحدتها ، شعرت بأن جسدها تشكل ونُحتً قوامه من جديد ، ليزداد حسنها وتتفجر أنوثتها هكذا تشهد مرآتها على ما ردده ويردده لها من عبارات الغزل،كانت كلما تذكرت تلك الصدفة التي قد كتبها الله عليها و جمعتها به في وقت كانت تشعر فيه أن الحياة ثقيلة تميل عليها دون رحمة ، حياة جدرانها باردة صماء لا تعيرها أي اهتمام،حياة تصدعت وتشققت جدرانها حولها فكيف تشعر معها بالأمان ،حياة خلت من الرفيق والحبيب والونيس، كانت كلما تذكرت تلك الصدفة الرائعة في حياتها وكيف أنها كانت ستفوتها على نفسها وتجور عليها لو لم تذهب الى تلك الرحلة التي نصحتها بها تلك العجوز ،عندما دقت جرس باب شقتها وألقت عليها السلام وأخبرتها بأنها قارئة للفنجان فهل جربتها لتقرأ لها فنجانها وتعرف لها حظها ونصيبها من هذا العالم ، قالت لها يومها انها تعرف حظها تمام المعرفة أخبرتها العجوز أنها لن تخسر شيئا ثم صمتت العجوز ونظرت مرة أخرى في عينيها وطمئنتها أنها ستأخذ منها نصف ما تأخذه من الأخريات وأمام الحاح العجوز رثت لحالها وافقت على مضض وانها كما تقول لن تخسر شيئاً ، و بعد أن تناولا القهوة سوياً تركت للعجوز فنجانها تفعل به ماتشاء أمسكت العجوز بفنجانها تنظر داخله تقلبه ، تبعده وتقربه تتفحصه جيداً ، وبعد لحظات تمتمت العجوز بكلمات غير مفهومة ، وبكلمات واضحة منفصلة غير متصلة ، أخبرتها بالكثير عن نفسها وأحوالها ولكن أهم ما أخبرتها به وشد انتباهها أن سعدها ينتظرها هناك في بلدة بعيدة على أطراف خارطة مصر ثم أضافت العجوز لها وقد اتسعت حدقتى عينيها ، وقالت شرط أن تذهب وتسعى وراء سعدها فسعدها لن يأتي إليها وعندما أحبت أن تعرف منها اسم تلك البلدة أو اي شئ عنها قالت لها العجوز عليها هي أن تسعى لذلك كما أخبرتها ، مر عام على تلك الحادثة وقد حاولت أن تتنساها ولكن الغريب في الأمر ان كلام قارئة الفنجان ظل عالقا بذهنها ، صوت العجوز دائماً حاضر في أذنيها ، إلى أن عزمت في يوم على العمل بنصيحتها حدثت نفسها انه على الأقل من باب كسر الروتين والملل فهي في أشد الحاجة لراحة وسفر بعيد وتغيير الوجوه والأماكن ، ذهبت وحجزت لنفسها مكانا على رحلة من رحلات السفاري لدى شركة سياحية متخصصة في هذا النوع من الرحلات الداخلية ، طلبت من الشركة أن ترشح لها مكان تذهب اليه، كان الطريق إلى واحة سيوة طويل ومرهق يقرب من تسع ساعات، قطعت الحافلة مسافات هائلة ولم يبقى الا القليل من الطريق وهي تشق طريقها نحو الغرب في الصحراء ، طريق أسفلت ممهد يبدو أمام الحافلة كخيط أسود ممتد فوق رمال الصحراء المنبسطة الممتدة بلا نهايات ، تعجبت لأمر تلك الصحراء ورمالها وتحول لونها بين مسافات متباعدة بين الأصفر والأحمر والأبيض بينما لا تعرف لحياتها غير لون واحد لايعرف التغيير، وعندما لاحت من بعيد قمم النخيل عرفوا أنهم على مشارف سيوة وصلت الحافلة وعند دخولها من المدخل الرئيس للواحة شعرت بنقلة نوعية في الزمان والمكان حيث الطبيعة الساحرة وعبق التاريخ الذى تترجمه آثار "شالى" الباقية من أطلال مدينة سيوة القديمة. إلى جانب معبد آمون على هضبة تطل على مزارع النخيل على مشارف الواحة، الذى قدم فيه الإسكندرالأكبر القرابين إلى الإله آمون، خلال رحلته التاريخية لمصر وفي الليلة الأولى لها في سيوة بعد أن نال جروب الرحلة قسطاً من الراحة نزلوا لمطعم الفندق للعشاء ، كان المطعم يتسم بالطابع البيئي ،طاولات وأرائك خشبية بتصميم شرقي بٌسط عليها حشوات من سجاد السدو ، وعلى جدران المطعم علقت مشغولات وسلال مكونة موارد البيئة المحلية من خوص وسعف النخيل والأصواف ، جلس نزلاء الفندق يتناولون عشائهم ، بينما هي انفردت بطاولة وسط أريكتين ، كانت سعيدة بانفرادها على طاولة العشاء وبعزف لفرقة سيوية تعزف ألحانا من التراث السيوي بألاتها الشعبية ،لاحظت أثناء تناولها للطعام أن الشخص الذي يجاورها على طاولته لاتمتد يده لطعام بل ممسكا بكراسة اسكيتش ومستغرقا في الرسم ، التفتت اليه بهدوء خمنت انه من جروب أخر ، فجروب رحلتها صغير وقد حفظت وجوههم جميعاً ، وبعد قليل من الوقت شعرت به يختلس النظر إليها من حين لأخر مع استمراره في عملية الرسم التي يمارسها داخل كراسته، توترت وارتبكت قليلاً وتوقفت عن تناول الطعام ثم هدأت بعض الشئ واستمرت في تناول طعامها،وبعد أن انتهى الجميع من عشائهم وأثناء إحتسائهم لبعض المشروبات الساخنة والباردة بجانب أنواع مختلفة من التمور التي تمتاز بها سيوة ، قام من مكانه وباغتها مستسمحا أن يجلس إلى طاولتها، لم تمانع ، استسلمت للمفاجأة تماماً ،عرفها بنفسه فنان تشكيلي ، لم يمهلها رد فباغتها بسؤال أخر هل هي الزيارة الأولى لها لواحة سيوة ؟ قالت نعم..وهي تتعمد أن لا تبدي أي اهتمام ، نظرها صوب الفرقة الموسيقية تنقر بأصابعها على الطاولة تتهادى برأسها تتصنع أنها منصتة لموسيقى الفرقة ، سألها هل هي الليلة الأولى لها هنا ؟ نظرت في عينية وقالت نعم ، قال ستعجبك سيوة وأهلها الذين مازالوا يحافظون على نمط حياتهم بتفاصيلها الفطرية ، وعاداتهم القريبة الشبيهة بالأساطير وحكايات سالف الزمان. فضلا عن تركيبتهم السكانية الفريدة، بدءا بأصولهم الأمازيغية، المختلطة ببعض الأصول العربية، والموزعة على ثلاثة عشر قبيلة ، يتحدث أهلها اللغتين العربية والأمازيغيةسألته هل أنت فنان تشكيلي أم دليل سياحي ..! قال لها أخبرتك أنني من عشاق الواحة ، سألته هل أنت هنا في زيارة سياحية ..؟ قال لها إنه يأتي الى سيوة بصفة دورية في مشروع تطوعي منه وبعض زملائه لإقامة ورشة عمل لأبناء سيوة من أجل الحفاظ على تراث فنونها، قالت له هل لي في سؤال أخير؟ منذ جلوسنا على العشاء وأنت تتفحصني بعينك من وقت لأخر، قال ان ملامحها تقترب من ملامح نساء الواحة ولكن يظل لديها شئ يميزها شئ خاص بها تنفرد به في ملامحها عن غيرها من بقية النساء ، قالت هل لهذا السبب قمت برسمي أثناء تناولي الطعام مد يده تناول كراسة الاسكيتش من جانبه وفتحها على إحدى صفحاتها لترى بورتريه لها غير مكتمل ، قال لها ولكنني كما ترين لم أكملها بعد، قالت اذن فلتكملها، قال لها كيف وأنت سترحلين بعد قليل ، قالت له تلك مشكلتك أنت فلتكملها من خيالك فلن أبقى هنا طيلة الليل حتى تكمل لوحتك ، قال لها لامشكلة لدي في ذلك فإكتمالها لايتوقف على بقائك وجلوسك أمامي ، بل يتوقف على معرفتي بأبعاد الشخصية التي أقوم برسمها ،قالت له لاأفهم أليست الملامح هي ماتبحث عنه وترسمه ...!؟ قل لا بالطبع من يفعل هذا فهو يقوم بعملية نسخ ليس إلا وفي هذه الحالة يكون قد خسر جهده وألوانه وقماشة اللوحة ، الفنان الحقيقي لابد له أن يغوص في أغوار روح الشئ الذي أمامه حتى وإن كان حجراً أصم ليخرج مابداخله على لوحة قماشية أو في شكل منحوتة حجرية أو خشبية أو اي ميديا أخرى .سألها إن كانت تحب من الغد أن ترافقه لزيارة معالم الواحة فهو يعرف البلد جيداً وكل معالمها ، اعتذرت منه وقالت له أنها تفضل البقاء مع الجروب هذا أفضل ، قال لها إذن سأرافقك مع الجروب إن قبلتِ حتى أكمل لوحتي ، قالت له متصنعة الدهشة على وجهها.. إلى هذا الحد موضوع اللوحة هام لديك؟ قال لها عندما أنوي القيام بعمل وأبدأ فيه أحب أن أنهية لقد قال نزار قباني في إحدى قصائده ان من بدأ الماساة ينهيها وإن من فتح الأبواب يغلقها وإن من أشعل النيران يطفئها وأنا أزيد إن من بدأ المسافة ينهيها. افرجت عن ابتسامة باهته وقالت له وهي تتصنع بعض من السخرية سأقول لك شئ ان المرآة ليست صديقتها ولكنك ستجعلني اعيد النظر في علاقتي معها ابحث في وجهي عن تلك الملامح التي لاتراها في غيري من النساء، وعلى مدار أربعة ايام التقت فيها معه لساعات طويلة لم ينقطع فيها الحواربينهما حتى خلال زيارتهما لأماكن ومعالم كثيرة في سيوة مثل قلعة شالي الباقية من أطلال مدينة سيوة القديمة ومعبد التنبؤات الذى بنى فى عصر أمازيس عام 622 قبل الميلاد، لعبادة آمون والتقرب إليه وتقديم القرابين، وهو المعبد الذى توج فيه الإسكندر الأكبر عام 331 قبل الميلاد، وجبل الموتى الذى يضم مقبرة يونانية وأخرى رومانية، إضافة لأطلال سيوة القديمة أو "شالى" التى سكنها أهالى سيوة خلال الفترة من القرن الثاني عشر إلى القرن التاسع عشر الميلادي ، وبيوت المدينة القديمة المبنية من "الكرشيف"، وهى خليط بين الطمى والملح يستخدم فى البناء فى سيوة حتى الآن ، ثم استمتعا سوياً بمشاهدة الغروب من فوق جزيرة سطنس ذات الطبيعة الفريدة والمشاهد الخلابة حيث تقع الجزيرة وسط بحيرة كبيرة وتتوسط الجزيرة عين مياه وتحيط بها أشجار النخيل والزيتون ، ثم زارا أماكن أخرى كثيرة ومتعددة مثل عيون المياه الطبيعية الباردة والساخنة والينابيع والبحيرات والكثبان الرملية التي تحيط بسيوة، كانت في كل لقاء وحوار معه تشعر أن المسافة بينهما تضيق إلى أن شعرت أنهما لم يصبحَ أغراب عن بعضهما كان كل شئ فيه يقربها إليه كل شئ فيه تلقائي وبسيط ارتاحت له إلا أنها كانت حائرة في الحزن الذي يطل من عينية عندما يكون صامتاً فضلت ألا تسأله وأنه من الأفضل أن تكتشف ذلك بنفهسا أو ليخبرها هو وقتما شاء وأراد ، أربعة أيام لم ينقطع عنها يجاورها وتجاوره، يحدثها وتحدثه ،تنصت له وينصت لها ،تهمس له ويهمس لها ، أمر غريب كان يحيرها وتشعر به كل يوم ، هناك شيئ ما يحدث بداخلها ، هي غير قادرة على تحديده وتوصيفه لكن كل ماتعرفه وعلى ثقة ويقين منه أن هناك بداخلها تغير وتحول من طور إلى طور ، لاتعلم سببه ومصدره هل هو سر تلك الواحة وسر سحرها الذي أسر الأسكندر الأكبر وجعله حتى يوصي بدفنه في رمالها ، أم السر فيه هو منذ تعرفت عليه وأصبحت برفقته ، أم الإثنان معاً، لاتعرف..؟ تشعر أنها على شفا أمر عظيم لاتعرفه أيضا ولكن شئ واحد فقط أصبحت تعرفه أنها أصبحت مطمئنة راضية وفي الليلة الأخيرة لها في سيوة أخبرته أثناء إختلائهما ببعض أنها راحلة غدا في الصباح الباكر مع جروب الرحلة للعودة إلى القاهرة ،...قالت له لقد انتهت الرحلة ، أرجو أن تكون قد أتممت لوحتك ، خرجت الكلمات من بين شفتيها مخنوقة ممزوجة بشجن عميق ، قال لها ان الأمر لم يكن مجرد لوحة بالنسبة له، قالت له سأقول لك شئ لاأعرف ان كان يهمك أم لا.. إن تلك الأيام التي قضتها هنا معه من أجمل أيام حياتها ، إقترب منها أمسك يدها نظر في عينيها وبصوت يكاد يفترب من الهمس قال لها ... هاتوحشيني كتير ، وبصوت متهدج سألته عن موعد عودته للقاهرة، أخبرها أن أمامه على الأقل أسبوع واحد فقط وسيلحق بها إلى قاهرته التي اشتاق اليهاً ، استحلفته الا يمكث اكثر وألا يتأخر عليها، وعدها بذلك، وفي الصباح الباكر كان معها يودعها وهي تستقل حافلة العودة وقد أحضر لها معه بعض من التمور النادرة وزيت الزيتون اللتان تشتهر بهما الواحة، ثم أوصاها بنفسها، إختارت لها كرسي في مؤخرة الحافلة فضلت أن تنفرد بنفسها بعيداً عن جروب الرحلة ، تحركت الحافلة وفي بدايات الطريق وبصرها ممتد لبعيد شاردة الذهن منتشية بإحساس غريب يسري داخل أوصالها و كيانها هل هو الحب ؟، فالحب لم تعرفه من قبل تمنته لكنها لم تذقه ، وفجأة قطع شرودها رنين هاتفها الخلوي تعلن لوحته المضيئة عن أسمه .. ايوه نسيت تقولي حاجه، قال لها .. بحبك .. مرت لحظة من الصمت بينهما ثم قالت له وأنا كمان ، ثم ودعها مرة أخرى ، وانتهت المكالمة وقد غطت بكفيها وجهها غير مصدقة شعرت ان قلبها تتسارع دقاته وأن لشدة ضرباته صوت يسمعه كل ركاب الحافلة ، سحبت شهيقا عميقاً ثم زفيرا استرخى معه كل جسدها ، إرتسمت على وجهها ابتسامة كبيرة مالت لليسار قليلاً ترتكن بكتفها ووجها على زجاج نافذة الحافلة وهي تشق طريقها بينما هي بصرها ممتد الى الأفق نقطة اللا نهاية تحدث نفسها هل كل هذا حقيقي أم انه حلم يقظة أو حلم غفوة قصيرة؟ لا غير معقول انه حقيقي ، وفجأة تذكرت قارئة الفنجان .. لقد صدقت العجوز..وأثناء تساؤلاتها العديدة إنتبهت لنفسها وهي تردد مع صوت أم كلثوم كلمات إغنيتها التي سبحت نغماتها اليها قادمة من على هاتف خلوي لأحد الركاب في مقدمة الحافلة ،وكأن صوت أم كلثوم على موعد معها فكانت تشدو أم كلثوم وتردد هي معها... اللي شفته قبل ماتشوفك عنيه عمر ضايع يحسبوه ازاي عليا .. انت عمري، لم يمر الأسبوع الفاصل بين عودتها وعودته من سيوة إلا والوصل بينهما متصل لم ينقطع فقد استحكمت حلقاته وتوثقت عروته عبر الهاتف طيلة الأسبوع ، كانت تشعر أن سبع أيام بدونه سبع سنوات عجاف، وفي الساعات التي سبقت عودته من سيوة إتصل بها يخبرها أنه قادم مؤكداً على ساعة لقائهما يذكرها بعنوانه،اقتربت الساعة وانشق الصدر وامتد البصر ولاح البيت العتيق، وفي الساعة الأخيرة من النهار كان هدير سيارتها يقترب من المنطقة التي يقطن بها، المكان هادئ جداَ وفسيح ، البيوت متباعدة عن بعضها، المكان به سكون ورهبة ، ولكن صوته المستمر على سماعة هاتفها يطمئنها أنها في الاتجاه الصحيح ،إلى أن أصبحت أمام بيته، بيت قديم وعتيق حجارة بنائه الضخمة وطراز عمارته يدلان على بناءه في عصر مختلف ، يحيط بالبيت حديقة صغيرة يجاور البيت بل تكاد أن تلتصق به شجرة عجوز ضخمة تظلل عليه بفروعها الضخمة وأغصانها وكثافة أوراقها، تبدو الشجرة وكأنها حارس شخصي له يدفع عنه كل غريب ومتطفل ، كل شئ كما وصفه لها تماماً، توقفت سيارتها بجانب سيارته تحت مظلة قديمة ، سكن هدير محركها وقبل ان تفتح بابها وتنزل منها اندفع اليها رجل عجوز مرحباً بها بلكنة صعيدية ، كان يبدو من هيئته انه حارس البيت من جلبابه وعمامته التي فوق رأسه وقد ترك من يده كوب من الشاي وضعه على الأريكة التي كان يجلس عليها ، أخبرته ان الأستاذ ينتظرها ، رحب بها مرة اخرى وقد أفسح لها الطريق لتدلف من باب الحديقة ثم عاد لمكانه يجلس على أريكتة القديمة المتهالكة يحتسي كوب الشاي ويدخن سيجارته ، قطعت مسافة صغيرة داخل ممر ضيق بين أغصان كثيفة ومتشابكة ، وفي نهاية الممر باب خشبي ضخم وقبل خطوات قليلة من نهايته فُتح الباب وبدا مبتسماً صافحها شدت على يده ، ظل ممسكاً بيدها مرحباً بها ، مشيا سوياً في ردهة قصيرة إنتهت بمرسم كبير وفسيح ، إتساعه بإتساع مساحة البيت، سقفه حاله حال الأسقف المرتفعة لبيوت مصر القديمة والعتيقة ، وقد تدلت منه سلاسل تنتهي بأطواق حديدية تراصت عليها قناديل زجاجية ، وعلى مساحة المرسم بضع من الأعمدة المستديرة والمتباعدة تصل بين أرضية المرسم وسقفه، تيجانها يلفها مقرنصات حجرية ، جدران المرسم حجارة غير مكسية ، نوافذه ذات مستويين ، المستوى العلوي من الزجاج الملون المعشق والجزء السفلي له من زجاج ملون ومشغولات حديد الفورجية وضلفتي الشيش ، عُلقت على جدرانه بعض فوانيس إسلامية ، ولوحات تشكيلية بأحجام مختلفة تنوعت خامات ألوانها ما بين الزيت والأكرليك والباستيل ، كان بين اللوحات لوحتين كبيرتين بألوان زيتية بورترية لوالده وبورتريه لوالدته عرفت ذلك قبل أن يخبرها عن طريق برواز مستطيل مذهب يتوسطهما كُتب داخله بخط كوفي آية من القرأن الكريم ( وقل ربي أرحمهما كما ربياني صغيراً ) كان للتحف نصيب كبير من المكان تراصت على أرفف خشبية تنوعت التحف ما بين إسلامي وفرعوني وأفريقي ، الجزء الأعظم من مساحة المرسم ورشة عمل أما الجزء المتبقي منه في نهايته يضم أريكة وكرسيان وطاولة من الخيرزان عليهم حشوات مخملية مطرزة ، يجاورهم بعض من نباتات الظل ونافورة مياة صغيرة يؤطرها آنية من الفخار لنبات الريحان عطرت رائحته المكان ، أبدت إعجابها بالمرسم وبإتساعه وبتمثال يحمل ملامحه ويماثله في الحجم ، تمثال أهداه له فنان نحات صديق قديم له من دفعته ، وفي نهاية المرسم بجوار باب مغلق صعد بها درج حجري دائري حيث الطابق العلوي ، يضم ردهة طويلة واجهتها قسمت على ثلاث مشربيات، وفي الجهة الأخرى خمس حجرات تنوعت مابين حجرة والديه المتوفيين وحجرة نومه وحجرة مكتبه وحجرة صالون وحجرة المعيشة وردهه فرعية تضم كل من الحمام والمطبخ ، لفت نظرها أن أثاث المنزل برغم قدم موديلاته إلا أنه بحالة جيدة ومازال يحتفظ برونقه وجماله بفضل التحف الإسلامية التي وزعت بشكل رائع ودقيق بين قطع الأثاث ، وبعد رؤيتها للطابق العلوي هبطا مرة أخرى للطابق الأرضي حيث المرسم ، تركها تتجول براحتها داخل المرسم مستأذنا اياها أن يعد فنجانين من الشاي الأخضر بالنعناع السيوي على موقد صغير داخل صينية نحاسية على طاولة صغيرة ، ثم قام بضغط زر لجهاز الاي فون لتنساب منه موسيقى تركية بتوزيع حديث ، عاد إليها وقف أمامها لم ينبث ببنت شفه يتطلع في عينيها ، كذلك هي لم تنبث ببنت شفه ، فقد نصب الصمت خيمته حولهما ، نظراتهما معلقة ببعضهما ، لم تشعر إلا وكفيه يحتضنان كفها الصغير ، وقد إنحنى على يدها يقبلها برفق ثم يضع وجهه في راحة كفها يستنشق أريجها بعمق شديد وأثناء ذلك شعرت بشئ دافئ سقط في راحة كفها ، كان ذلك الشئ دمعة فلتت وسقطت من إحدى عينية واستقرت بكفها ، مسحت بيدها على شعره ثم رفعت رأسه لأعلى ، هزها ما رأته من دمع إغرورقت به عينية ، هل تلك الدموع من أجلها ، سحبت يده تجاهها قبلتها وضعت خدها على راحة يده ، أغمضت جفنيها لتنام رموشهما على خديها كأميرات الحواديت ، مرت لحظات ثم سال من أسفل جفنيها دمع غزير ، مال بوجه على وجها لثم بشفتيه دموعها المستقرة على خديها وشفاهها ، وبهدوء شديد همت به وهمَ بها ، تبادلا قبلات ناعمة ، قبلات امتزجت بكلمات رقيقة لكليهما تعبر عن شوق كل منهما للأخر حتى اجتاحهما اعصار من القبل ليعتصر كل منهما شفاه الأخر بين شفاهه ، يحتوي كل منهما الأخر بين يديه ، وعندما هدأ قليلاً إحتوى هو رأسها بين ذراعيه يقبل شعرها بينما وضعت هي رأسها على صدره وقد طوقت خصره بذراعيها متوسلة اليه الا يتركها ويبتعد عنها فقد أصبح دنيتها التي لاتريد ان تخرج منها ابداً، جلسا متجاورين على الأريكة يحتسيان الشاي الأخضر ثم انتهيا منه وقد اقتربت منه تجاوره وضعت رأسها على صدره طوقت خصره ، تحدثة عن تلك الصدفة وعن هذا التشابه الكبير بينهما فكلاهما يحيا حياته وحيداَ كلاهما فقد الأب والأم في وقت مبكر قالت له غريبة تلك الحياة معي في تطرفها من البخل الشديد إلى الكرم المفرط ،وأخشى ما أخشاه أن تغافلني الحياة مرة أخرى وتسرق مني هذا الفرح، ثم ضمته اليها بشدة التصقت به أكثر وأكثر ، قبلها قبلة طويلة على جبينها طمئنها ألا تخشى فراقهما وأنه جاء الى هذا العالم من أجلها هي فقط ، ثم جلسا يسترجعان سويا رحلة سيوة، يسترجعان اللقاء الأول بينهما ، كل منهما يذكر الأخر بمكان أو بوقت معين أو بحوار دار بينهما أو بموقف ضاحك ، قالت له وهي تطل في عينيه بينما أصابعه تداعب خصلة من شعرها ، تعرف عندما حرضتني أن أزوغ من جروب الرحلة وذهبنا سويا على دراجتين الي عين الماء الرائعة التي تحيطها الاشجار واستحممنا فيها سويا لم يكن هناك غيرنا ولم يزعجنا أحد ، وقتها شعرت أنه لايوجد غيرنا في هذا العالم وتمنيت ان يطول بنا الوقت داخل هذا النبع وأن يطول بنا المقام في تلك الواحة حتى نهاية العمر ، قام من مكانه جذبها من يدها قامت معه وعلامات الدهشة على وجهها ، إلى أين ..؟!قال لها سأحقق لكي الأن نصف تلك الأمنية ، وقف أمام باب خشبي عليه حفر غائر لإمرأة تستحم تصب الماء فوق راسها،دفع الباب بيده عبر عتبته إلى الداخل وهي تتبعة ممسكة بيده لترى أنها داخل مسبح فسيح نصف حيطانه من الأعلى حجارة غير مكسية ونصفها السفلي وأرضيته مكسية برخام فيروزي اللون ، الجزء الأعلى للحائط المواجه للباب يوجد به طاقة صغيرة من الزجاج المعشق الملون مزخرف برسومات لأوراق نباتية تتخللها فتحات دائرية ضيقة لخروج بخار الماء، يتوسط المسبح حوض ماء كبير مستطيل حافته تتساوى مع أرضية المسبح فعمقه يمتد داخل الأرض وليس أعلاها أمتلء الحوض بماء دافئ وبجانب الحوض تراصت بعض قنينات لزيوت عطرية وعلى مقدمة حافة الحوض صنبور على شكل رأس بجعة يتساقط من منقارها بعض من قطرات الماء، لم يمهلها لتسأل عن شئ قفز في الماء وهو ممسكاً بيدها ليسقط فيه وتسقط معه فيعلو الماء من حولهما ويفيض بعضه خارج الحوض ، يضحكان يشتبكان في مداعبات مائية باليد ، يقذف كل منهما الأخر بالماء، يتصارعان ، يلتحمان، يبتعدان ، يقتربان إلى أن إقتربا ولم يبتعدا ،إلتحما ولم يفترقا ،إستعادا قبلاتهما الساخنة،وبعد ساعة من الوقت استعاد المسبح هدوءه، وسكنت مياة حوضه، واستقر رذاذ الماء الدافئ على جدران المسبح كلؤلؤ منثور ، وتهادت سحابة شفيفة من البخار في الفراغ ، وعلى جانب من المسبح مصطبة رخامية صغيرة تناثرت عليها ملابسهما المبللة ، بينما هما يجلسان في الماء الدافي داخل حوض المسبح وقد انخفض مستوى الماء حتى خصريهما ، مسنداً هو ظهره الى جدار الحوض بينما جلست هي بين ساقية وقد استرخت بظهرها على صدرة وقد طوقها بذراعيه من خصرها يقبل شعرها المبتل يقبلها من عنقها يردد في أذنيها عبارات الحب والغزل ، يغرف براحه كفه الماء يصبه فوق رأسها وكتفيها ، يمرر الماء بين نهديها يمسح براحتي كفيه معاًً جسدها كله ثم يعيد الكرة ، وبنعومة شديدة تداعب أنامله حلمتي نهديها وبراحة كفية يحتوي نهديها يضمهما يضغط عليهما برفق ثم يعتصرهما وهو ويعتصر شفاهها بين شفاهه في آن واحد ، وعلى كرسيان الخيرزان جلس كل منهما مرتديا بورنُس يتناولان مشروبا ساخنا مزيج من القرفة مع الحليب ، وفي الساعات الأخيرة من الليل وهو ممد على الأريكة مسنداً رأسه على فخذيها يتجاذبان أطراف الحديث وعن تلك الهدية التي منحتها الحياة لكل منهما ، سألته هل انتهيت من رسم لوحتي؟ قال لها لقد ذكرتيني ، ثم انتفض من مكانه هبَ واقفاً قائلاً لها في عقلي مشروع رسم لوحة زيتية بالحجم الطبيعي لكِ جذبها من يدها متجها للجدار المقابل حيث جزء من الجدارعلقت عليه سجادة أصفهانية قديمة أسفلها تجويف غير عميق داخل الحائط تراصت فيه بعض الأواني النحاسية وأسفل هذا التجويف مصطبة حجرية كبيرة وكليم كرداسي مُسجى فوقها وعلى جانب من المصطبة سحارة خشبية عليها حفر غائر لأشكال هندسية إسلامية وأيقونات نحاسية طعمت بها، قبلها ثم خلع عنها البورنُس اسقطه على الأرض أجلسها على المصطبة وبلمسات بسيطة منه جعلها تتمدد على الأريكة تتكئ برأسها على ذراع بينما الذراع الأخرى أمام صدرها، ممدة الساقين إلا من إنثناءة خفيفة لهما، فتح السحارة اخرج منها لفائف من أقمشة حريرية مختلف الوانه أنتقى منه لونا بسطه على جسدها لينساب في جزء ويتموج في جزء أخر ، يتوارى جسدها في جزء وينكشف في جزء أخر، ظل يقترب منها ويبتعد يتأملها من زوايا مختلفة عبر برواز كرتوني مجوف حتى استقر على زاوية بعينها ثم أسرع باحضار حامل اللوحات وضع عليه لوحة بيضاء كبيرة فارغة ، أحضر فرشاته وألوانه ، أشعل غليونه ثم سحب منه نفس عميق ونفخ دخانه في الهواء قال لها يجب عليه ان ينتهي من هذه اللوحة قبل أربعين يوماً، سألته لماذا أربعين يوما هل لأنها كبيرة قال لا، قالت اذن لماذا حددت هذا الرقم ..؟أخبرها أن للأرقام أسرار ودلالات وستعرف في حينها، كانت دائما تحسب عدد الليالي التي قضتها معه لم تتخلف يوماً أو تأخرت عنه دقيقة واحدة عن لقائها اليومي معه ، تأتي إليه في الساعة الأخيرة من النهار قبل غروب الشمس تلتقي به يمارسان ما اعتادت عليه كل ليلة تنهل من خمر وعسل جنته ، أمس اكتملت أربعين ليلة ، تشابهت كلها الليالي لم تختلف ليلة عن الأخرى إلا أنها في كل ليلة تشعر ويكأنها الليلة الأولى لها معه ، كل شئ يفعلانه سوياً كأنهما يفعلانه للمرة الأولى ، أربعين يوماً لم يتغير خاطره عنها ولم يمل منها ، يدنو لايبتعد ، يزيد لاينقص ، يشتعل لاينطفئ ، شوقه ولهفته ، حضنه ودفئه، حنيته ورقته، قبلاته ومداعباته ، دوما هي في حضنه جالساً كان أو متكئا أوداخل حوض المسبح لم يبخل عليها ليلة واحدة بشئ من نهر الحب الممتد منه إليها ، دائما كريم في مشاعره معها مفرط في حبه ومداعباته وقبلاته من منبت شعرها حتى أخمص قدميها ، اعتادت على كل شئ معه طقوسه عاداته حتى مشروباته الخاصة ، مشروباته الدافئه ، شايه الاخضر ، قرفته بالحليب ، اليانسون وزهرة البابونج ، مشروباته الباردة من الكركديه والخروب والعرقسوس والتمرهندي ، حتى أحاديثة الجانبية ، حواراته وقصصة أدمنت سماعها كل ليلة وهو يقوم برسم واستكمال جزء من لوحتها التي وعدها بها ، كل شئ كما هو اللهم إلا أمس فقط كان يشرد منها كثيراً ليغلب صمته كلامه وعندما تسأله عن السبب ينظر اليها فقط لا يتكلم ، اليوم في حسابها ستكون الليلة الواحدة والأربعون ولكن طيلة النهار لم يحدثها حاولت هي.. هاتفه خارج الخدمة،
اقتربت الساعة وانشق الصدر وامتد البصر ولاح البيت العتيق، اقتربت من البيت ونفسها قلقة تعبة ، قلبها غير مطمئن ، صدرها مُقبض ، تشعر ان امر جلل وعظيم حدث أوسيحدث ، وأمام بيته ترائ لها حارس أخر غير عم صالح الذي تعرفه، يجلس على أريكته التي اعتادت ان تراه جالسا عليها كل ليلة، وعندما اقتربت تماما من البيت ونزلت من سيارتها وهمت بفتح باب الحديقة ، زعق فيها الرجل رايحه فين ياست هانم انتِ مين..؟ قالت له انت اللي مين ..؟ قال لها انه حارس لهذا البيت ، قالت له منذ متى ؟قال منذ اليوم، سالته عن عم صالح حارس البيت الذي تراه ويرحب بها كل ليلة، أخبرها انه قادم بعد ساعة، ثم سألها هل انتي من ورثة البيت؟ أم من المجلس الأعلى للأثار قالت له اي بيت ..؟! لاأفهم شيئ مما تقوله قال لها الا تعرفي أن البيت مهجور منذ ان توفى صاحبه منذ أعوام طويلة وأن هناك نزاع قائم بين الورثة والمجلس الأعلى للأثار على البيت ، لقد تم نهب محتويات البيت عدة مرات حتى أصبح خراب من الداخل ، زعقت فيه اي تخريف هذا الذي تقوله ان صاحب البيت موجود وأنا لي اكثر من أربعين يوما أتردد على البيت وصاحبه حي يرزق أقابله كل يوم ثم صرخت في وجهه هل هو من اوصاك بهذا، قال الرجل لاحول ولا قوة الا بالله ، ياست صدقيني لماذا لا تصدقيني ،نهرته قالت له ابتعد عن طريقي ودفعته بيدها وأسرعت نحو باب البيت تقرعه بكلتا يديها وهي تصرخ عليه وتنادي بإسمه أن يفتح لها الباب، أمسكها الرجل من ذراعها وقال لها يا ست هانم ان هذا الأسم الذي تنادين به هو لصاحب البيت الفنان المتوفي وكلنا نعرف انه متوفي منذ أعوام طويلة والبيت مهجور من وقت وفاته، صرخت فيه مرة أخرى ونعتته بالجنون والكذب وعندما لم يجد الحارس معها حيلة ليصرفها أخرج لها من جيب جلبابه مفتاحاً للبيت وقال لها انه عهده عليه ومع ذلك سيعطيه لها لتدخل وترى لتتأكد بنفسها أن البيت مهجور تماماً ، وبأصابع مرتعشة وضعت المفتاح في ثقب الباب لفته عدة مرات ثم قامت بدفع الباب وقد أزعجها صوت صريره وبرغم احساسها بثقل الباب الا انها ظلت تدفعه حتى النهاية ثم اندفعت مهرولة الى الداخل وقفت مذهولة غير مصدقة المرسم من الداخل مهجور و خاوي وخِرب، الغبار وخيوط العنكبوت تملأ أركانه، نافورة المياة محطمة ومغطاه بطبقة كثيفة من الغبار، يكاد الذهول أن يقتلها لقد كانت هنا حتى صباح هذا اليوم ، ظلت تهرول صعدت الى الطابق العلوي وهي تصرخ بأسمه تنادي عليه تدفع أبواب حجراته حجره تلو الحجرة ، لم يكن الطابق العلوي بأحسن حال من المرسم كل شئ مهجور الحجرات خاوية تماماً من الأثاث كل ركن بالبيت مهجور اللهم الا من طبقات الغبار المتراكمة والصمت والوحشة ، هرولت مرة أخرى إلى أسفل حيث المرسم وهي على حالها تصرخ وتبكي دفعت بيدها باب المسبح لتدلف داخله لترى أن المسبح حاله حال بقية البيت مهجور وألواح كاملة من رخام المسبح انتزعت من مكانها، تكاد أن تجن تقف على باب المسبح وقد أمسكت رأسها بكلتا يديها وعندما رمت ببصرها الى نهاية المرسم رأت تمثاله هناك يقف في ركن قصي هرعت اليه تعدو بكل قوتها وطاقتها لتسقط فجأة وتنكفئ على وجهها عندما تعثرت قدميها في بعض البلاطات التي تشققت وتكسرت وبحركة هيستيرية نزعت عن قدميها نعليها بعد أن إنفصل عن أحداهما كعبه، أكملت عدوها تجاه التمثال إرتمت بكل جسدها عليه ثم ابتعدت عنه خطوة واحدة إلى الوراء وبحركة هستيرية أخرى قامت بنزع وشق بلوزتها عن صدرها وخلعتها عنها ليبقى على نصفها الأعلى حمالة الصدر فقط، أمسكت بلوزتها الممزقة تمسح بها وجه التمثال تزيل عنه غبار كثيف أخفى ملامحه، وعندما إتضحت ملامح وجه التمثال ظلت تردد وهي تصرخ لم أكن أحلم ..لم أكن أحلم وأنني لست بمجنونة فكل مارأيته وعرفته حقيقي وهاهو تمثاله وملامحه التي عرفته بها، طوقت التمثال بذراعيها وهي تقبله وتنظر في عينيه تخاطبه والدمع ينهمر من عينيها الم أكن معك هنا حبيبي طيلة أربعين ليلة، نعيش سوياً أجمل أيام عمرنا ، تضع خدها على وجه التمثال ودموعها لاتتوقف ثم تنتبه أن هناك في ركن قصي أخر حامل رسم يحمل لوحة كبيرة ،عليها غطاء كبير مهترئ إختفى لونه تحت طبقة الغبار الكثيفة ، نظرت لوجه التمثال قبلته قبلة طويلة تخاطبه وتشاور بيدها تجاه اللوحة المغطاة ، أرايت حبيبي ها هو دليل أخر أن مابيننا لم يكن بحلم أو وهم ، ها هي لوحتك التي رسمتها لي طيلة أربعين يوما لوحتك التي انتهيت منها أمس ، كما وعدتني وقلت لي أنها أجمل لوحاتك، أنا على يقين أنها هي التي على الحامل في نفس مكانها فلم يكن يوجد في المرسم لوحة بحجمها، حلت ذراعيها عن خصر التمثال هرولت الى اللوحة وقفت أمامها دون حراك ثم امسكت بطرف غطاءها المهترئ متسمرة في مكانها وبحركة بطيئة ظلت تسحب الغطاء عن اللوحة وهي مغمضة العينين وما أن شعرت أنها انتهت من إزاحة الغطاء عن اللوحة فتحت عينيها فتكتشف انه إطار فارغ دون لوحة بداخله ،ظلت تصرخ وتبكي أمسكت بالحامل الخشبي تحطمه وهي تردد لا...لا لايمكن..!؟ أنا لست واهمة ظلت تدور حول نفسها وهي تصرخ وتردد كابوس.. كابوس .. ان ماتراه ليس حقيقياً انه كابوس ولابد لها ان تستيقظ منه فكانت تغمض عينيها وتفتحهما عله يكون كابوس و، عندما أدركت انه لا فائدة وأن ماتراه حقيقي وواقع ، عادت تهرول الى تمثاله مرة أخرى تناديه بأسمه تحتضنه وتبكي تضع وجهها على صدره لتختلط دموعها بالغبار المتراكم عليه فيصير الدمع أسوداً ملطخاً وجهها ، تنظر لوجه التمثال وهي تخاطبه يكفي انك هنا معي لتؤكد لي اننا كنا هنا سوياً طيلة اربعين يوماً، ثم تتوسله أن يرد عليها أن يخبرها أين هو وأين الحقيقة إنها تتوسل له أن يخبرها بحقيقة مايحدث حولها وأيهما حُلم وأيهما حقيقي..!؟ هل علاقتهما سويا حُلم ووهم ،ظلت تبكي وتصرخ في وجهه وهي تردد انطق اتكلم من اي جنس انت إنسي أم جني، شبح أم عفريت، ألم يقل شاعرك ان من فتح الأبواب يغلقها ومن أشعل النيران يطفيها ..وإن من بدأ المأساة يُنهيها..! فلتُنهيها وأنت معي اياً كنت بشحم ولحم ودم أو شبح وطيف وخيال، يكفيها أنه الوحيد في هذا العالم الذي أسعد قلبها وعاشت معه أجمل أيام عمرها ، ظلت تصرخ في وجهه حتى انهارت وجثت على ركبتيها ممسكة بساقيه ظلت تبكي ونشيج بكائها يملء صداه المكان وقد زاد المكان وحشة الظلمة التي تسللت عبر نوافذ المرسم تحاملت على نفسها وقامت وهي متكئة على التمثال تخاطبه فلترقص معي حبيبي مثلما كنا نفعل سويا كل ليلة تحتويني بين ذراعيك أضع رأسي على صدرك هكذا ثم احتضنته تجرجره تدور به تنتقل به من هنا الى هناك ومن هناك الى هنا تدور به حول نفسها وتدور وتدور إلى أن سقطا معاً على الأرض وقد تهشم التمثال أما هي فلم تكن تدري ما أصابها فتحت عينيها بصعوبة بالغة لم ترى شيئاً في العتمة تنادي عليه وقد اختنق صوتها وفي قلب العتمة لاح لها من بعيد طيف شفيف خفي الملامح قالت كان داخلي يقين أنك هنا وأنك ستأتي لتشهد النهاية لتنهي المأساة وأنت معي ويصدق شاعرك إن من بدأ المأساة ينهيها،....... في الصباح كانت النيابة تعاين مكان الحادث جثة إمرأة مسجية بجانب تمثال مهشم تناثرت أجزائه، والحارس القديم للبيت عم صالح يقف بجانب وكيل النيابة يخبره انها مندوبة من المجلس الأعلى للأثار وأنها كانت تتردد على البيت طيلة أربعين يوما لكتابة تقرير عن البيت تأتي في المساء تبقى وحدها داخل البيت ولا تذهب الا في الساعات الأولى من الصباح ، ولا أعرف ماذا تفعل وحدها في الداخل طيلة الليل ، إنحنى وكيل النيابة ليلتقط من بين أصابعها دفتر قديم مهترئ صبغة الزمن بصفرته ، قرأ منه بضع سطور ليكتشف أنها جزء من مذكرات صاحب البيت المتوفي منذ سنوات طويلة ، ،مذكرات كتبت تحت عنوان يوميات فنان في سيوة
تمت
تمت كانت هي الكلمة الأخيرة والمتممة لخاتمة الرواية التي تقرأها ليلى "قارئة الفنجان " لتطلق تنهيدة طويلة ثم تضم دفتي الرواية تغلقها وتضعها جانباً ، تضغط مفتاح صغيراً، ينطفئ نورالحجرة، تضع رأسها على وسادتها لتنام وهي تردد.. صحيح كذب المنجمون ولو صدقوا
تمت

حسن أرابيسك