.

.

اللوحة الأخيرة

Friday, August 31, 2007













عندما دعوتني لكي أرى أخر لوحه رسمتها لي
في هذا البيت القديم العتيق
أعلم أنه بيت أجدادك وأنك ورثته عنهم وأتخذت منه مرسما لك
محرابا لتأملاتك الفنية
كذلك أصبح بيني وبين هذا المكان بكل ما فيه علاقة وثيقة
حالة من العشق المتبادل
عندما أخطو أول خطوه لي داخل مرسمك
تستقبلني رائحة شموعك الفواحه بالبرتقال أوالتفاح أو التوت
وكانها تُعلن لي عن دخولي لعالم آخر مختلف كل الإختلاف
عن عالمي الخارجي
الذي أتركه دائما خلفي
بجانب حذائي على عتبه باب مرسمك
باب خشبي بلون قشر البندق ثقيل بضخامة أضلاعه وثخانته
نُقش عليه زخارف اسلامية غائرة
دائما ما أجد صعوبه وأنا أدفعه في محاولة لتحريكه وفتحه
ربما يتطلب مني بذل بعض الجهد لكي أستحق أن أدخل إلى هذا العالم
عالم أحجار حوائطه ضخمه لزمن قديم
سقف مرتفع جدا مُحمل على عروق خشبية ضخمة
يُذكرني بأسقف المعابد الدينية شديدة الإرتفاع
دائما ما تسحب البصر والروح معها لأعلى في الفضاء الداخلي لقبابها
تدلى من مركز السقف سلسلة حديدية تشابكت حلقاتُها في تلاحم تُشد أزر بعضها
لتتحمل ثُقل دائرة خشبية كبيرة على شكل دفة سفينة تدلى منها ثمانية قناديل تضاء ليلاً
في عتمة هذا الفراغ الهائل تحت ارتفاع سقف المكان
فيتبدل إحساسي بالمكان بفضاءً مُظلم تتجمع
فيه أنجمهُ في حضرة سماوية فتسبح وتُسبح وتتلألأ
المكان فسيح أرضيته عتيقه لبلاط سُداسي الأضلاع زهري اللون ناعم الملمس
أخطو عليه حافية القدمين
فأشعر داخلي براحة تصاعُدية كزئبق ترمومتر
يصعد من أسفل قدماي إلى أعلى باقي أنحاء جسدي
ولكنه لايرتد ثانيا وكأن حريتي ابتدأت من هنا ..حافية القدمين
ويتوسط المكان نافورة ماء صغيرة مُحلاه اُطرها بقطع من الموزاييك
الأخضر مائي اللون
تراصت حولها آنيه فخاريه لنبات الريحان أضافت رائحته
بعداً أخر لعبق المكان
فالمكان يحتوي على فضاء هائل بداخله
تعلمت منه علاقة الكتله مع الفراغ
وبداخل المرسم نافذة صغيرة تُزينها مُقرنصات حجريه
و أشكال هندسية لزجاج مُلون مُعشق تخترقه أشعة الشمس
تختلط بالوانِه الساحرة
لترتمي على سجادة أصفهانية إيرانية قديمه
عُلقت على الحائط المقابل للنافذة
لتُعيد قراءة مُنمنمات قصة فارسية قديمه لأميرة ضلت طريقها
كنت اشُعر بعلاقة حميمية بيني وبين تلك السجادة
هي تنتظر كل شروق للشمس
تنتظر هذا الضوء الذي يُحيي فيها قصتها القديمة
والوانها الباهته بفعل الزمن
كذلك أنا بين كل مرة ومره أتي فيها الي هُنا
انتظر المرة القادمة
وفي رُكن بعيد داخل مرسمك على إرتفاع منخفض من الحائط
عُلقت لمبة جاز نُحاسية لم يُشعل فتيلُها بعد
كنت دائمة النظر إليها أشعُر أحيانا أنها تتحدث إلي
تُخبرني أنها تنتظر دوراً لها في حياتك في يوم ما
بعد أن تذوب شموعك الفواحه
وهنا أكتشف سر تعاطفي معها
إنه القاسم المشترك بيننا .. الصبر وطول البال
وأسفل تلك اللمبه
على أرضية المرسم صُندوق قديم
عبارة عن سحارة خشبية على غِطاؤها العلوي
نقش لجمل يحمل هودج عروس وبعض الايقونات
شمس
كف
جعران
نخلة
كانت تحتوي بداخلها على فانتازيه ألوان مُختلفة من الحرير الهندي الشفاف
دائما ما تلحفت به على جسدي العاري ومن حولي
فيُشعرني بموج حريري..لااخشى منه شيئا على بشرتي الناعمه
تُصاحبني حالة عطش دائم وأنا خارج عالمه
وأتوق لشرب ماءه البارد من داخل زير فخاري ضخم
يعلوه غطاء خشبي جميل
يتجمل بسلسلة مُعلقة به وبالطرف الأخر كوز نُحاسي أحمر
أحتضِن الزير بكامل جسدي العاري
أشعر أنه يستجيب مع إنحناءات جسدي
أشعر بنشع فُخاره المبلل بالماء وهو ينتقل
من مسام فخاره إلي مسام جلدي مُتلذذه بذلك
وأنحني قليلا فوق فوهة الزير الواسعه فيتدلى نهداي فوقه
قبل أن أدلي بدلوي النُحاسي
وأغترف من ماءه البارد العذب وأرفع الكوز لتقترب حافته من فمي
أقبله ويُقبلني ليسقُط منه ماءً بارداً داخلي..وبعضاً منه على جسدي
بفعل متعمد مني ..كصخره قابعة أسفل شلال تحتضن مائُه البارد
تغتسل به ولكنها لا ترتوي
كُنت أتعجب أنه نفس الماء ولكن شتان إحساسي في الحالتين
وهو ينزل داخلي في جوفي وبين أن يتساقط على جسدي
كُنت أشعر داخل مرسمه أنني في عالم آخر عالم أشعُر فيه
بروحانية زمن لم أعرفه
بالإستماع إلى موسيقى تأتي إلى سابحةً
في فضاء مرسمه من جرامافون قديم في أحد الأركان
بجانبه بعض الاسطوانات لموسيقى تركيه قديمه
وطقاطيق لمطربين قدامى رحلوا مع من رحلوا عن عالمنا
ولكن دائما ما إنتبهت وأنت تقوم برسم لوحة لي
أسمعُك تُدندن بأغنية قديمه لشاديه
( أه يا أسمراني اللون حبيبي يا أسمراني )
في كل مره احاول فيها أن أسالك
عن شغفِك ودندنتِك المستمرة لذلك المقطع من الأغنية
ولكني كُنت أتراجع في النهايه
إلى أن فطنت لشئ وأدركته
وهوأنك تهوى صاحبات البشرة الخمرية والسمراء
وبالفعل انقطعت عنك لفترة أتيت لك بعدها
ببشرة برونزية نُحاسية اللون لجسدي كله
وقتها أدركت أنني كُنت صائبه
لأنك لم تتردد في إظهار إعجابك الشديد بلون بشرتي البرونزي
وبجانب روحانيه الزمن والمكان، أشعُر أيضا ببعض التحرر مني
أقف أمامك عارية الجسد لايستُر جسدي عنك شئ
سوى بعض من الخجل في حمرة وجنتاي
وحالة الخشوع التي تصيب جسدى كله
فيحتضن بعض جسدي بعضه.. وكأنه يتوارى عنك خجلا
جسد عاري مُتكئ على بعض من أحجار هذا البيت القديم العتيق
أحجار خشِنه الملمس..بارده بعض الشئ
أحجار تسحب من جسدي شئ وتُعطيني شيئاً آخر
لا أعلم ماذا تُعطيني وماذا تأخُذ مني
ورغم هذا كُنت راضيةً عن تلك المُقايضة
مُقايضة أجد فيها كثير من الراحة الجسدية والنفسية
حينما أقف أمامك عارية الجسد
أشُعر أن ساقاي لا تحتملان أن ترفع هذا الجسد لأعلىَ
جسد جُغرافية تضاريسُه تصرُخ تُعلن بقوة وبوضوح
عن ثورة من الأنوثة المتفجرة
لذلك أستلقى على أريكتك
أريكه خشبية قديمة شرقية الطراز مُطعمه بقشور الصدف
لم يقوىَ عليها الزمن بعد.. فما زالت تحتفظ برونقها
وسائدها مخملية زرقاء دائما ما تحتضن جسدي الشديد البياض
كمحارة تحتضن بداخلها لؤلؤة ثمينة في قاع البحر
لم يستطع غواصُ بعد على إنتزاع لؤلؤتها من داخلها
كانت تحتضنني تلك الأريكة بوسائدها المخملية
وكانها هي الأخرى تشعُر بهذا الخجل الذي ينتابني كل مرة
حينما أنزع عن جسدي كل ملابسي
أستلقي عاريةً أمامك
تقف أنت خلف لوحتك
مُمسكاً بإحدى يديك بلتت الألوان وبالأخُرى فُرشاة
تتأملني عينيك من أعلى إلى أسفل.. ومن أسفل إلى أعلى
وفي أثناء تلك الرحلة
التي تقطعها عينيك بنظرة طويلة متواصلة مُمتده على جسدي
كانت لك بعض المحطات التي تقف عندها
لا أدري هل متاملاً مُتصوفاً مُعجباً بجمال أبدعه الخالق
ام كنت تنشد بعض الراحة
في واحة ما على جسدي من طول الرحلة
تسترد فيها أنفاسك
اشعر بتلك النظرة الطويلة
وأتسال داخلي أهى نظرات لحس الفنان وعقله
أم هي نظرات ذكر لأنُثى عارية الجسد أشعلت بداخله ناراً
ولكن شرف مهنته يمنعه مِن أن يُعلن ذلك
في الحالتين سيان عندي وفي نهاية الأمر
أنا كأي امراءة تُحب دائما أن تشعُر بجمالها وأنها مرغوبة
ولكن لا أنُكر أن نظرته لي كانت تُدغدغ جسدي
كُل شئ هُنا يُدغدِغ روحي وجسدي
أبعاد المكان ..عبقه.. روحانيته
خشونة أحجار بيته العتيق
قِطع الحرير الناعمه على جسدى
ماء الزير الفخاري البارد
وسائد اريكته المخملية
أنامل أصابعه
حينما تُلامس جسدي ليُعدل من وضعي قليلا
كان يترك لي حُرية إختيارالوضع الذي سأكون عليه داخل لوحته
مستلقية
على ظهري
على وجهي
على جانبي
مقرفصة
محتضنه ساقاي بضمهما إلى صدري
يتوسطهما نهدين في حالة استنفار دائم
ينتظران دورهما في حياتي على التوالي .. كأنثى وكأم
أو واضعة وسادته بين أفخاذي
جالسة
متكئه
على الأريكه
وخلف الأريكه مشربية كبيرة
وضوء يتسلل من فتحات تكوينات قطع الأرابيسك بها
يرمى بخيوطه على جسدي بإنكسارات عفويه
لا أدري أهو عشق من الضوء لهذا الجسد
أم لإضفاء حالة من الغموض والسحر على هذا الجسد في لوحة زيتية
يتنافس معه كي يخطف الأبصار ويحتارالنُقاد والمٌفكرون
ويتجادل المُثقفون الأن أو بعد عدة قرون
هل سر وسحر وغموض هذه اللوحات يكمن في الضوء المتسلل
من فتحات الارابيسك فوق هذا الجسد
أم أن سر وسحر وغموض هذه اللوحات
في الحالة التي عليها صاحبة هذا الجسد المُستلقي على الأريكه
وبعد وقت طويل ومجهد لكلينا انا أمامه هو خلف لوحته
يدعوني ان نستريح قليلا نمارس طقوس إعتدت عليها معه
نفترش الأرض على سجادة سدو بدويه يدوية الصنع
اتحسسها براحة كف يدي يمينا ويساراً وبحركة دائرية
أستشعر من خلالها برمال صحراء اُنقب فيها عن شئ
ليس بالضروي شئُ ثمين .. دائماً ما نسعد لعثورنا على بعض الأشياء
حتى لو بسيطه ..أشياء نفتقدها أشياء نعرفها أولا نعرفها
نرتكن بظهورنا على الحائط أوعلى مساند جلدية محشوه بالقش
يتوسطنا صينية نُحاسية تقاسمت معنا سجادة السدو
بالصينية عُلبتان للسكر والشاي الأخضر..كوبين زُجاجيين
وموقد صغير يعلوه براد أزرق يكتفي بداخله بمقدار من الماء لشخصين .
يتولى هو إعداد الشاي الأخضر بينما أقوم أنا بإعداد غليونه التشيكي الصنع
الذي يعتز به إعتزاز خاص لا أعرف سر كل هذا الاعتزاز
..هديه من إنسان يعز عليه عرِف كيف يختار هديته ..؟
رجلُُ هو..أم سيده .. صديق ...صديقه ..حبُ قديم
وهذا الغليون يحمل له بعض الذكرى منه
كم تعبت من إلحاح هذا التساؤل وهذه الأجابات الإفتراضية
أتناول علبة التبغ علبة صفيح مستطيلة أنيقة
رُسم على غطائهُا صورة لوجه بحار قديم
واضعاً غليونه في فمه.. تلمؤه ثقة الرجال بأنفسهم
طالما ما أحببت أن أدُس أنفي بداخل العُلبة أستنشق منها رائحة تبغها
تعلمت كيف أضع التبغ بداخل غليونه كما علمني بحيث لا يتخلله الهواء
أشعله بعود ثقاب وأنا اسحب منه عدة أنفاس متواصلة تخلق سحابة كثيفة
من الدخان تلتف حولنا تظللنا..نرتشف الشاي الأخضر.. نتبادل غليونه
وحينما يأتي دوري في التدخين بتلقائية وعفوية مني أشعر بشفتاي
وهي تمتص رضاب شفاه من على مبسم الغليون قبل أن أمارس عملية التدخين
تُصاحبنا كلمات قليلة خاليه من الرنين تقترب أكثر من الهمس
يخترق همسنا صدى المكان لعزف منفرد من آلة وترية
أسعدني إهتمامه بعشقي وولعي بسماع صوت الآلات الوترية الشرقية
ها أنا لَبيتُ دعوتك جئتُ إليك
تغمُرني فرحة تتضاعف داخلي كُل مره آتي اليك فيها
يرقص قلبي طربا
وانا أراكَ تُمسك بلوحتي بين يديك
مثل كل مرة.. تُعذبَني قليلا حتى أراها
وها أنا أراها
ولكن..!!
تسمرت في مكاني
توقفت عن التنفس
تجمد نظري في إتجاه واحد
ولم اُحرك ساكنا
تلك هي حجارة مرسمه الخشنة الملمس
أشُعر بخشونتها في اللوحه
فضربات فُرشاتِه بارعة في ذلك
المشربية هي
تكوينات الأرابيسك هي
أريكته الخشبية ذات الوسائد المخملية هي
ولكن ..من تلك..؟
من تلك التي في اللوحة..؟
مُستلقية بجسدِها العاري على الأريكه
تحمل نفس ملامحي
ونفس إنحناءات ومقاييس جسدي
إنها ليست لي..!
انها ليست حالتي الذاتيه التي أحببتها
وتوحدت معها دائماً داخل مرسمه
وداخل لوحاته
إنها ليست لي..!
فأنا على يقين إنها ليست لي..!
إنها.. لغانية
بائعه هوى
أمرأة لعوب
نعم...نعم
ذلك لم أتردد
كان على أن أنصرف
أخرج من عالمه

أنسلخ عنه
إستجمعت شجاعتي
تجاهلته
أنتزعت اللوحة من بين يديه
قطعتُها
مزقتُها
فأنا لن أقبل أن يراني هكذا
هو أو غيره
خارج اللوحه
أو داخل اللوحه

حسن أرابيسك

الأديب الراحل محمد حسين بكر

Tuesday, August 14, 2007


بمناسبة تكريم القاص والروائي الراحل:محمد حسين بكرفي قصر ثقافة روض الفرج
لا يسعني إلا أن أكتب تلك الكلمات المتواضعه على لسان حال رفيقه دربه القاصه والروائيه سهى ذكي

شاءت الأقدار يامحمد أن تلتقي بإحبائك

أحباء أتوا إليك من كل فج عميق

أحباء يلتفون حولك كضريح نبي

ضريح عُلقت به أيقونات الحب والخلاص

ضريح تعلقت به قلوبهم يلتمسون صدق أدبياتك

ضريح تعلقت به أكُفهم يتحسسون سر أبجدياتك

ضريح إحتضنته صدورهم يستنشقون عطر إبداعاتك

ُبهرهم مشوارك وجهادك في دروب وساحات الزمن الصعب

تُخبرهم أدبياتك ومُنمنماتك على لوحات رُسمت بمداد من القلب

بسر السقوط الرهيب للحروف في زمن السلم والحرب

مُحمد إلتف حولك القاصي والداني والمحب والصديق والجميع

مُحمد بعد خريف طال وذٌبلت أوراقه ينشدون فيك عوده الربيع

يلتفون يطوفون في حضرة أدبيه روحانيه

ينشدون يرددون من الوفاء تراتيل نورانيه

مُحمد أعرف أنهم يسعدون ويأتنِسون بك

وانك كما كنت دوماً تسعد وتأتنس بهم

وأنا..... انا

قبلتُ ضريحك والعيون نواظرُ

وماعاد يؤنسني سواك مُعاشرُُ