.

.

خيط منفرد - قصة قصيرة

Wednesday, November 12, 2008




في الصباح 
تن..تن..تن..تن، دقات ساعة الحائط في غرفة نومها تعلن عن السادسة صباحاً، تتململ في فراشها، تزيح بيدها غطاءً قطنياً خفيفاً من فوقها تلقيه جانباً ، تطرد بقدميها ما تبقى من حوافه، ليكشف الغطاء عن جسد عاري مازال يحتفظ بجزء كبير من نضارته رغم تجاوز صاحبته العقد الرابع من عمرها بقليل ، تنفض عنها بقايا كسل من أثر السُبات وهي تحايل جسدها على النهوض، تجلس على حافة السرير ، ترتكز براحة كفيها عليه، إنحنت بجزعها قليلاً للأمام ، تدلت ساقيها إلى أسفل ، وضعت قدميها فوق سجادة مسجية على الأرض ، صوبت نظرها إليها، أطالت النظر، تتأمل خيوطها المغزولة وهي في حالة تجاور وتلاحم داخل نسيج السجادة ، ترى جمال الخيط في في تجاوره وترابطه وإندماجه ، فليس هناك أدنى جمال في شكل الخيط منفرداً وحيدا ً، تلك هي حياتها.. خيط منفرد ، غير مرتبط بخيوطً أخرى يندمج معها لتصبح حياتها قطعة من نسيج لها شكل ومعنى ، كم فكرت كثيراً في الخروج المبكر على المعاش ، ملت نمط حياتها الرتيب ، الاستيقاظ مبكراً، الطريق إلى العمل ، زملاء وزميلات العمل وإفتراس نظرات الرجال منهم لها كأرملة وحيدة ، النساء وحديثهم الدائم عن تربية الأبناء والمشاكل الزوجية ورغبات أزواجهم ، ومن باتت ليلتها في حسرة وهم ، ومن بُليت منهن بلاءً حسنا في ليلتها ، فكرة الخروج المبكرعلى المعاش تراودها كثيراً لكنها في كل مرة تطردها بعيدا، تخشى أن تقضي عليها الوحدة ، جو العمل برغم مافيه يؤنسها قليلاً ، جاراتها كُثر ..نعم كُثر لكن هن يتحفظن في علاقتهن معها ربما يخشين من وحدتها ومن جمال مازالت تحتفظ به، أقاربها قليلُ هم تناءوا عنها بحكم بُعد إقامتهم عنها وإنشغالهم بحياتهم ، الأخت الوحيدة لها هاجرت منذ سنوات طويلة تسمع صوتها عبر الهاتف مرتين أوثلاث على مدار العام فقط في المناسبات ، لم تعثر على صديقة تقترب منها تطمئن إليها ، لتبث وتفضي لها بكل ما اختزنته طوال سنوات عمرها وما فعلته بها تلك الوحدة القاتلة ، صديقة تواسيها وهي تشيع سنوات العمر التي تغافلها وتمضي مسرعة دون إستئذان منها ، صديقة تؤنسها وهي في استقبال سنوات موحشة قادمة إليها بدون كارت دعوة أو رغبة منها في إستضافتها ، صديقة تأتي وتطمئن عليها من وقت لأخر ، تأتمنها على نفسها ، تعطيها نسخة من مفتاح شقتها حتى إذا انقطعت عنها فجأة الأعمار بيدي الله ، لكن مجرد التفكير في ذلك يرعبها

بعد الظهر

تن..تن..تن..تن دقات الساعة المعلقة على حائط الصالة المقابل لباب الشقة تُعلن عن الثالثة بعد الظهر ، عادت من عملها ، يخترق مفتاحها ثقب الباب ، تعبُر عتبته بخُطى ثقيلة ، ترد الباب خلفها، تقف برهة ، تجول ببصرها ، تحدق بهم ، كل يوم هم في إستقبالها و إنتظارها ، سكون نائم ودائم ، فراغ متوغل وموحش ، جدران صماء وباردة ، وأثاث متقوقع على نفسه ، تطلق زفيراً طويلا ، تقذف بحذائها من قدميها ، تخلع عنها ثوبها ، تحل مشد صدرها تُبقي فقط على سروالها الداخلي ، تتجه صوب المطبخ ، تكتفي بقليل من الطعام أخرجته من البراد ، وبدقيقة لتسخينه داخل جهاز المايكروويف ، في منتصف المطبخ طاولة طعام صغيرة بين كرسيان متقابلان ، تجلس على إحداهُما ، بينما الأخر إعتاد أن يظل فارغاً ،على الطاولة طبق واحد ، وكوب واحد ، وملعقة واحدة ، تأكل بطريقة شبه آليه ، لم تعد تتذوق ما تأكله ، تنتهي من طعامها سريعا ، أصبحت تمل مضغ الطعام ، وعبر نافذة صغيرة للمطبخ تطل على المنور الداخلي للعمارة ، تصل إليها أصوات الجيران بين فواصل زمنية قصيرة
ياولاد تعالوا ساعدوني خدوا مني الأكل ..
ياأحمد أعملك معايا شاي ..
ياماما العصير فين ..
ثم صمت ..صمت ....تسترقى السمع..ولكن لا شئ غير الصمت تغادر المطبخ وقد إتئدت في مشيتها ، تدلف لغرفة نومها ، ترد الباب خلفها تغلقه.. تتركه مفتوحا ..سيان عندها، تنزع عن جسدها ماتبقى عليه ، تقف أمام مرآة مضببة الأطراف ، تتطلع لجسدها تتفحصه ترى هل فعل الزمن شئ جديد به.. ؟ تُلقي بنفسها على سريرها ..تتمدد على ظهرها ، تتشابك أصابع يديها العشرة خلف رأسها ، تحملق في سقف الغرفة ، تمر دقائق قليلة ، تستشعر به عند قدومه ، فتحل تشابك أصابعها ، تستدير على جانبها ، تضع وسادتها فوق وجهها ، أصبحت تلك عادتها عندما يأتيها ، هو الوحيد الذي يأتيها في غرفة نومها ، ويعرف تفاصيلها وتفاصيل جسدها ، يأتيها فتستسلم له .. ثم تذهب معه لتكسر بعض من الوقت والوحدة في يومها ، أصبحت تخشاه كثيراً في السنوات الأخيرة ، تخشى أن تذهب معه يوما ولا تعود ، ولكنها في النهاية تستسلم له..فتغط في نوم متقطع

في المساء
تن..تن..تن..تن، دقات ساعة الحائط تعلن عن السادسة مساءً ، وتحت مياه الدش الباردة العابرة على جسدها تقف لاتُحرك ساكناً حتى تفيق تماماً ، تنتهي من حمامها ، تضع على جسدها روب تعقد رباطه حول خصرها ، تمشط شعرها وقد تدلى على ظهرها مجتازاً خصرها النحيل فترسو نهايات أطرافه عند بدايات هذا الشق الفاصل بين أردافها المستديرة والثرية ، وفي غرفة المعيشة تجلس على كرسي مخملي ضخم أمامها طاولة يعلوها صينية خشبية مدت يدها داخل محيطها الدائري لتشعل موقد صغير وضعت فوقه كنكة بها مقدار من القهوة والماء يكفي لفنجان واحد من القهوة ، تُعد قهوتها كما إعتادت ، فنجان من القهوة السادة ، تلتقط علبة سجائرها تُخرج منها لفافة تبغ تُشعلها ، تنفث دخانها ، ترتشف من فنجانها بعض من القهوة ، وعبر قنوات جهاز التلفاز تتنقل من مسلسسل لأخر ، تمر الساعات ، تمل المشاهدة .. تغلقه ، تقف حائرة أمام مكتبة صغيرة لديها تضم مجموعة من الكتب القديمة والحديثة ، تلتقط رواية لأحلام مستنغامي "ذاكرة الجسد "قرأتها من قبل أكثر من مرة، تضع على عينيها نظارة طبية ، تقرأ وتقرأ وتقرأ

منتصف الليلتن..تن..تن..تن، دقات ساعة الحائط تعلن عن منتصف الليل ، في غرفة نومها و في ركن بعيد بجوار نافذة شبه مغلقة إختبأت وراءها عتمة الليل ، جلست على أريكتها ، يحتويها ضوء خافت لمصباح جانبي وقد عجز جسدها تحت غلالة شفافة وقصيرة أن يتوارى منه قوام ممشوق ، وبياض ناصع ، ولحم بض ، جلست تعتكف مع سنوات باهته من عمرها ، و في ركن أخر من الغرفة تعلق بصرها بسرير لم تهتز قوائمه مُنذ خمسة عشر عاماً ، مُنذ أن رحل عنها حبيبها..زوجها ، وهم على أعتاب حياة جديدة لهما معاً ، رحل عنها مبكراً ومرغماً ، رحل عنها قسراً وعن هذه الحياة كلها ، دون أن يترك في أحشائها إمتداد له يؤنسها في تلك الوحدة ، يصبح سندها بعد هذا العمر ، كثيرون تقدموا لها في ذلك الوقت للزواج منها لكنها رفضت أن تتأبط ذراع شخص أخر بعده في هذة الحياة، لذلك لم تُعطي الفرصة لأي رجل أن يقترب منها ، لم تحتمل بعد رحيله فكرة أن يحتويها رجل أخر بين ذراعية يقبلها في شفتيها يتحسس جسدها بيديه ، أنامله هو فقط كانت تعرف إتجاهاتها ومسالك دروبها المرئية والخفية ، تعرف مناطق إثارتها ومناطق راحتها ، رحمه الله وسامحه رحل عنها وقد تعلقت باصابعه مفاتيح ابواب أسوارها وأسرارها ، أبت أن يلامس فراش سريره جسد لرجل أخر فيطئ جسدها ، هو فقط كان يحق له ذلك ، هو الوحيد في حياتها الذي إمتلك صك الاقتراب والهمس واللمس وفعل كل ما يحلو له في جنته، دائماً ما حدثها بوشوشة وبهمس أثناء سمرهما معاً أو أثناء احتوائه لها بين ذراعيه يصف لها جمالها ، يُشبها بالمُهرة العربية الأصيلة في عذوبة طباعها وجمال تكوينها ورشاقتها وليونتها وطراوتها ،هي أيضا كانت تخبره أنه الخيال الذي لانت واستجابت له بعد أن كانت مثل فرسة برية جامحه ، فرسة عصية على الترويض ، شرسة لكل من تسول له نفسه بالاقتراب منها ، أما هو فلم يرضى عنها بديلاً وقد امتلك من الصبر وطول البال ليصل لمبتغاه إلى أقصى نقطه في قلبها ، لم ييأس ولم ينأى عنها لأنه عرف قدرها يخبرها أن الله أنعم عليه بها ، هو دائم الشكر لربه لأنه لم يأتي به في زمن أخر غير زمانها.... منذ وفاته وقد دأبت على إستدعاء كل الحسيات والمرئيات التي رافقتهما وجمعتهما وذابا فيها سوياً ، فتُحدث نفسها وتُشهدها بأنها لن تسمح لرجل أخر أن تتساقط حبات من عرقه على جسدها وعلى فراشه فتلوثه ، هذا الفراش ليس للرجال نصيبُ فيه أو حق ، انه لفارس ، فارس واحد فقط ، كان هذا الفراش له بمثابة ساحة شهدت له بكل بطولاته ومهارته ، يعرف متى يكون قاسياُ ومتى يكون حانياً متى يُسرع ومتى يبُطئ ، فارس يعرف كيف يسدد رمحه بمهارة فلا يخطئ هدفه ، كانت دائما معه راضية مرضية ، رحل الفارس ترك ساحة بطولاته خاليه خاوية إلا من أطلال يتردد بين جنباتها صدى صهيل فرسه وهي تناديه وتناجيه كل ليلة ، أثرت الوحدة بعده ، هل كانت على صواب في ذلك القرار أم لا..؟.. كل ماتعرفه الأن وبعد هذا العمر أن الوحدة شئ صعب في شباب المرء وشئ قاتل كلما إمتد به العمر ، تستدعي لحظات توحدا فيها وأنصهرا ، لحظات لم تنفلت منها في ذلك الزمن البعيد، اختزنتها وكأنها كانت تقرأ الغيب دون وعي منها فتدخرها لنفسها حتى إذا إشتد الحنين بروحها وفاضت منابع شوقها ..إستدعتها ، وها هي الأن تلبي دعوتها تلتف حولها ، تتخللها ، تجتاحها ، فتتمكن منها ، تستسلم لها، فتميل برأسها للخلف، تدلك براحة كفها بدايات عنقها ونهايات كتفيها ، تمرر أصابعها على صدرها ، تداعب حلمة ثديها المنتصبة ، تعتصرها بين السبابة والإبهام ، تتباعد ساقيها ، ينزلق كفها إلى اسفل بين فخذيها ، تستدعي لحظة ثمينة بعينها ، تضم شفتيها ، تطلق تأوهاتها ، ترتعش قليلاً..ثم تهدأ، وتسترخي أطرافها ، تدفع بيدها مصراعي النافذة للخارج ، يندفع بعض من النسيم البارد إلى الداخل ليرتمي على جسدها ، يداعب خصلة من شعرها تدلت على جبهتها ، تتناول كوبً خزفي كبير من فوق منضدة صغيرة أمامها ، تحتضنه براحتى كفيها معاً ، ترفعه على فمها ، تتجرع قسطاً كبيراً من مياة غازية تسبح بداخلها بقايا مكعبات ثلجية ، تلتقط راديو ترانزستورصغير بجانبها تدير مؤشر محطاته..تتوقف عملية البحث عند أغنية قديمة تعرفها جيداً لم تسمعها منذ زمن بعيد ، تغير وضع جلوسها تضع إحدى ساقيها أسفل فخذ ساقها الأخرى ، تُشعل سيجارتها ، مقدمة موسيقية وجمل موسيقية تتسلل إلى وجدانها كروح آتت إليها من عالم أخر كي تحوم حول تابوت السنوات التي سقطت منها داخله ، تعبث بغطاءه تحاول فتحه ، تنجح في ذلك ، ترفع غطاءه لتجد ضالتها ، جثة مسجية لسنوات عجاف خلت من صُحبة الرفيق وحنو الونيس ، ورقرقة الحبيب، وطراو ة كلماته، وألفة لفتاته ، ونسائم أنفاسه، وهمس شفاهه، وعذوبة رضابه ، ودفء حضنه، وأمان كتفه ، وونس خطوه ، فتنفخ فيها أشجان أنغامها وكلماتها لتُحييها وتُعذبها من جديد..يامالكَ القلبي
يا أسر الحبِ
النهر ظمأن لثغركَ العذبِ...........
يرتفع صدرها لأعلى ثم يهبط ليفُك أسر تنهيدة طويلة
أه من الأيام ..أه
لم تعط من يهوى مناه
مالي أحس أنني روح غريبُ في الحياة

تحتضر سيجارتها بين أصابعها فُتشعل من بقاياها السيجارة الأخيرة في عُلبة سجائرها ، ليبدأ سويا رحلة ِإحتراق جديدة ، تسحب نفسا عميقا ثم تطلق سراح دخانها الأبيض فتتبعه بحدقتيها وهو يسبح في الفراغ لأعلى مكوناً سحابة ضبابية لا يطول بقائُها فسرعان ما تتبدد وتتلاشى.. هكذا هي الحياة تراها في ذلك المشهد
قل لي إلى أين المسير
في ظلمة الدرب العسير
طالت لياليه بنا
والعمر لو تدري قصير
يافاتنَ عمري
هل انتهى أمري
أخاف أن أمشي في غربتي وحدي
في ظلمة الأسر

تهدلت جفونها ، سالت دمعة على خدها ، تبعها دمعتان ، سالت دموعها بغزارة تتسابق لتتساقط ، يختلط بكاؤها بنشيج تهتز معه أكتافها ، بعد قليل هدأ بُكاؤها..إختفى نشيجه، توقف بكاؤها تماماً ، تدلت رأسها فوق صدرها ، إسترخت أطرافها ، إنفلت من بين أصابعها عُقب السيجارة المحترق ، سكنت حركتها..سكنت
طالت لياليه بنا
والعمر لو تدري قصير

في الصباح
تن تن تن تن دقات الساعة في غرفة نومها تعلن عن السادسة صباحا .........................................................

تمت

حسن أرابيسك