.

.

الخـان

Friday, August 3, 2012


الخـــان
            ( قصة قصيرة)
                   بقلم حسن أرابيسك

مددت بصري إلى الخان 
رأيته من بعيد
وقد اشتدَ حنيني إليه
تحجر الدمع في عيني
لم أستطع تفتيته
لم أقدر على إسقاطه
اقتربت من الخان
أجر خلفي حقيبة سفر
رافقتني دوماً في أسفاري 
تسافر معي.. وتعود معي
بها بعض من ملابسي
وكتب صوفية وأوردة
 ودفتر قديم يحمل بعض من أشعاري
وقصاصات ورق صغيرة
مدون بها بعض من أفكاري
وأقلام خشبية 
وكراسة اسكيتش
وآلبوم صور يحمل بعضاً من أيامي البعيدة والقريبة لمناسبات مختلفة
معارض
كافيهات
دعوات
ندوات
 بها أيضا أخر تذكرة سفر لي
وجوازات سفري 
المنتهية المُنتهكة صفحاتها بتأشيرات وأحبار أختام متعددة الشكل واللون والحجم
كلها في النهاية تحمل معناً واحداً 
إذن بالدخول.. أو أذن بالمغادرة لطير مهاجر
إستمرأ السفر المفاجئ والرحيل المتكرر

إقتربت أكثر من الخان
داعب سمعي صوت الأذان من مآذنه الشاهقة
وفضاء سماء الخان يحمله لأذني في تردد ورجع جميل
 داعب أنفي الهواء المفعم برائحة أعشاب وبهارات شرقية اكتظت بها مخازن ومحلات عطارة الخان
داعبت ذاكرتي بيوت الخان العتيقة  وهي تتجلى لي بحجارتها الضخمة وملامح عمارتها الإسلامية القديمة فيحن عمري لأيام الطفولة وبدايات الصبا والشباب

اقتربت أكثر  وأكثر من الخان
بدا لي الخان بضجيجه وأهله وسكانه ومُريديه وهم كُثر
يتحركون في اتجاهات مختلفة
منهم من هو قادم من زقاق ضيق إلى رحابةالشارع الكبير للخان
ومنهم من يعبر عطفة صغيرة  إلى حارة أكبر 
منهم من يقف أمام باب ضخم لمسجد عتيق ينحني أمام عتبته ليخلع نعليه للدخول لزيارة ضريح أو للصلاة وقد شمر عن ساعديه للوضوء
منهم من يجلس على مقهي يحتسي  مشروبا ساخناً أو مثلجاً ، أو يدخن نرجيلة تتوهج جمراتها
ومنهم من يقف مع أخر على ناصية شارع كبير أو حارة صغيرة يدور بينهما حديث جانبي
ومنهم من يدفع بعربة خشبية ينادي على بضاعته بين بيوت الخان القديمة بقاماتها المتضامة وهي تطل بمشربياتها المتهالكة المتربة على جانبي طرقات الخان الملتوية والمتعرجة، وفي أسفل بيوت الخان يقبع في حضن حجارتها العتيقة حوانيت صغيرة ضيقة، البعض منها بضاعتها قليلة وفقيرة زبائنها فقط من أهل الخان،والبعض منها بضاعتها منتوجات تراثية للسياح الأجانب وقد تراصت أمامهم في زهو

أصبحت الأن على أعتاب الخان
أعبر أطراف بدايته
وفي  الاتجاه المقابل لي
 كانت هي
 تعبر أطراف نهايته
فأطراف نهايته بالنسبة لها
هي أطراف بدايته بالنسبة لي
كل منا في اتجاه معاكس للأخر
لكننا على خط مستقيم واحد
لمحتها ...لمحتني
رأيتها ... ورأتني
استيقنت منها... واستيقنت مني
ضاقت المسافة بيننا
تباطئت خطانا
ضاقت المسافة بيننا
ثلاثة خطوات...
خطوتين...
خطوة واحدة...
حانت نقطة اللقاء
نقطة التماس
توقفت خطانا
و كادت معها أن تتوقف أنفاسنا 
أنسحب الفراغ من بيننا
رفض أن يكون عزولاً 
فضل الحياد
أصبحنا وجهاً لوجه
زفيرها شهيقي
وشهيقها زفيري
تأملتها
وقد عربد شعر رأسها في تيار الهواء
عبث الزمن ببعض ملامحها بشيئ من جمالها بملايتها اللف التي تبدلت بعبائة صينية الصنع
هي أيضاً تأملتني بعينين فيهما شفقة نحوي لبقايا أثر السفر والترحال والسنين والمهجر على ملامحي 
 تأملتني بعينين يملؤهما حب وحزن وشوق وحنين وعتاب طويل ..وألف ألف سؤال


وددت لو  أخذتها بين ذراعي واحتضنتها وضممتها إلى صدري وقبلتها 
هي أيضا تود فعل ما وددته
قرأت ذلك في عينيها
 أحسست به في جسدها وأطرافه المضطربة
وحركة صدرها وهو يعلو ويهبط
من لوعة قلبها وأناته وشوقها إلي
شعرت بانتفاضة الأرض تحت قدماي
وددت لو  نزلت على ركبتي أمامها ودفست وجهي بين طيات عبائتها السوداء وأذرفت دمعاً من خلائقه الكبر وسألتها
 أن تغفرلي غيابي
 أن تغفر لي غبائي
ولكني لم أحرك ساكناً، فقدت السيطرة على أطراف جسدي
 لم أنطق بكلمة واحدة سوى أسمها
بينما هي قالت لي
وهي تحاول وتجاهد الا تختنق كلماتها المتقطعة
أذيك ياشاطر حسن
لم يكن غيرها يناديني بها
فينك...؟
دايماً كده في غيبتك
سايب وراك ناس بتحبك
وغيبتك صعبة وبتطول
ومبترحمش
واللي بيموت فيك وبيحبك تنساه
وعليه مبتسألش
كنت افتكرني ولو بعنوان بيتنا
تكتبه حتى على ظرف فاضي
صدقني..
 كان قلبي هيكون مكتفي بكده وراضي
عارف
كان نفسي وقتها 
تطمن عمري اللي بيضيع
 فيستناك
كان نفسي وقتها
 ترمي في قلبي الوديع 
بذرة أمل بلقاك
إزاي..
ازاي تغيب كده...؟
وانت بلغة ولاد البلد
 ابن أصول
وبتعرف في الواجب
وبتعرف في الاصول
وبلغة أهل الصاغة
معدنك دهب مش قشرة
تعرف قيمة الغالي
وتعرف تصون العشرة
وانك واحد مننا
واكل عيشنا وملحنا
وانك اباً عن جد من اهل الخان
لافيك عرق مملوكي
 ولاقلبك مره خان
قولي ياابن الناس الطيبين
ازاي بعدت عننا سنين
وازاي قلب حبيبتك عليك هان
كنت دايما تقولي متخافيش
وانتي معاكي الشاطر حسن
وان قلبي البرئ  غيرك انت مفيش
حد عليه يؤتمن
ياااه الكلام كان ببلاش  
كلام  فات عليه زمن...

وفجأة حررت دمعاً أسوداً .. لم يكن سبب سواده كحل عينيها الرباني ، بل من رواسب عذابات الهجر والضنا وقطع الوصل الذي كنت سبباً فيهم
ثم استودعتني
لم أنطق بكلمة
نسيت اللغة
ضاعت مني حروف الهجاء
عصاني لساني
جفَ ريقي
تيبست قدماي
إلتفت إليها وهي تمضي
وطفلين جميلين خلفها يمسكان بتلابيب عبائتها
لم ألاحظ ذلك أثناء دقائق لقاءنا الصعب
في هذه اللحظة فقط
 أدركت كم من العمر مضى وذهب مع الريح
أدركت عدد السنين التي أهدرتها ونثرتها هباءً في سماء بلاد بعيدة
 شعرت حقاً بندم شديد على ما ضاع من بين يدي
على ما فرت فيه من أجل أنانيتي
وغروري وكبريائي
و أضغاث أحلامي
و السفر على متن سفن أوهامي
تجمدت في مكاني
وأنا أراها تنأئى بنفسها بعيدا عني
إلى خارج الخان
تعبر أطراف نهايته
حتى  غابت وتلاشت وسط الزحام
اتجهت أنا الى داخل الخان
 أعبر أطراف بدايته
متجها إلى بيتي القديم ومرسمي
وساقاي لاتقوى على حملي
أمشي بخطوات متئدة
ونفسي تحدثني
ايه ياشاطر حسن
وبعدين يا شاطر حسن
قلت لها وأنا أتمتم
شاطر ايه وزفت ايه
قصدك تقولي .. الخايب حسن

حسن أرابيسك