.

.

الملائكة لا تمكث كثيراً على الأرض

Monday, October 10, 2011













عادة إستمرأتُها أنا وحبيبتي منذ زمن، منذ إلتقينا أول مرة ، عادة لم نتخل عنها رغم تلك السنوات التي مضت بنا من عمرنا.فكلما إلتقينا تضفرت أصابع يدينا والتزمت شفاهنا الصمت، ونظر كل منا للأخر نظرة طويلة عميقة ،فلا يحيد النظر منا في صوب أخر ، فكل منا لايريد أن تقع عيناه في هذه الدنيا على شيئ أخر أقل جمالا، تجولت في بلادي والبلاد التي تجاور بلادي وسافرت إلى مدن شتى حول العالم فرأيت من جمال نسائها العجب ،جمال يطيح بالرجال فيسقط عنهم وقارهم ، ويبلُغ بالغلمان الحُلم قبل أوانهم، ويشيب منه الولدان ولم يبدأ بعد عمرهم ، فالكل يُفتن وينصرف عن ربه ولو كان ناسكاً متعبداً قد شمر للصلاة ثيابه، ومع أن حبيبتي كانت لاتملك هذا القدر من ملامح جميلات تلك المدن الباردة، إلا أنني أراها هي دون غيرها تملك روحاً ملائكية لاتملكها تلك النساء الجميلات في المدن البعيدة والقريبة ، فالنساء الجميلات لتلك المدن المتعددة الألوان لم يكن يتعدى جمالهن حدود وجوهِهن وأجسادهن ، لم أكن أرى فيهن ملائكية معشوقتي التي كنت أراها وأستشعرها وأنا قريب منها، وعندما يأخذني السفر منها بمسافاته الشاسعة في سمائه وبحره وبره بطائراته وقطاراته وسفنه وأصبح بمنأى عنها يعصف بي شوقي وتضربني رياح حنيني إليها ويتداعى سائر جسدي بالسهر والحمى، فتتجلى لي، فينتفض قلبي ويضطرب نبضي كصوفي في حضرة، أدنو منها ،تدنو مني فتهدأ نفسي وتسكن وتطمئن وهي بجوارها في رحابها
فملائكية حبيبتي وروحها أفتقدها في نساء الأرض أينما ذهبت وأينما حللت، ملائكية لها روح تميزها عن نساء العالمين، كلما حاولت وصفها عجز لساني،وشُل قلمي،وتضائل معجمي، فروح ملائكيتها يعجز عن وصفها عظماء المؤرخين وعباقرة اللغة وجهابزة الشعر، وأساطين الفلسفة، ومن حاول منهم ذلك وأستطاع فلن يكفيه العمر بطوله ولو بلغ منه عتيا، أوحتى بلغ منه مبلغ نوح في عمره، ولن يكفيه مداد الأرض لقلمه لوصفها ولو كان مداده أنهاراً وبحاراً ، ولن تسعفه لغات العالم الحية منها والميته بكل معاجمها، وبرغم تلك السنوات التي مرت من عمرنا ولم ننجب فيها كنا نشعر أن الحياة أنـجبت كل منا للأخر ،كانت هي إبنتي التي لم أنـجبها ، إن عُدت إلى البيت تجري ملهوفة إلي تحتضنني تتعلق في رقبتي تقبلني ثم تجلس على حجري فأطعمها بيدي الحلوى التي جئت بها إليها في حقيبتي ،أحملها بين ذراعي أهدهدها أجول بها داخل جدران بيتنا، أداعبها قبل النوم وأحكي لها من الحواديت والحكايات التي تملئ الدنيا حولنا، ومثلما كانت هي إبنتي كنت أنا أيضا أبنها الذي لم تلده ، أراها أمي التي تقول لي اغمض عينيك خوفاً عليهما من رغوة الصابون عندما أستحم بين يديها كطفل صغير، تدلك جسدي بيديها الناعمتين الحانيتين ، تصُب الماء فوق رأسي وهي تُدندن لي بعض من أغانيها "ياحسن ياخولي الجنينة أدلع ياحسن،،،ياحسن ياغالي علينا خد وردة ياحسن"، وهي أمي التي أضع رأسي عى صدرها فتضمها بحنان ورفق جميل فأفضفض وأبوح لها عن مايختلج في نفسي، فتنظر في عيني، وتنصت لي وهي تُمرر أصابع يدها بين خصلات شعري وتمسح بكفها رأسي وترقيني ببعض الآيات والأدعية وتتضرع لله أن يذهب عني همي وغمي ويفك كربي، وهي أمي التي أرى في عينيها جزع شديد عندما يصيبني من المرض والألم شيئاً ،فتجلس ليلها ونهارها فوق رأسي تراقب حرارة جسدي، تمسح عن جبهتي وجسدي حبات العرق الغزيرة الساخنة، تبدل لي ملابسي المبللة بعرقي ومرضي ، تداويني وتطعمني وتسقيني، تفعل كل ذلك دون ملل أو تأفف،وعند شفائي أرى الحزن في عينيها تبدل بفرح شديد. ألم أقل لكم أراها أمي وتراني إبنها، أراها إبنتي وتراني أبيها، أراها حبيبتي وتراني حبيبها

كان هذا دوماَ حالنا إذا تضفرت أصابع يدينا ،إلتزمت شفاهنا الصمت، ونظر كل منا للأخر نظرة طويلة عميقة ،فلا يحيد النظر منا في صوب أخر ، فكل منا لايريد أن تقع عيناه في هذه الدنيا على شيئ أخر أقل جمالا ، ولكني اليوم أستسمحها أن أكسر تلك العادة الجميلة التي إستمرأناها سوياً ، أستسمحها أن تنسحب يدي من يدها ، أن تخرج شفاهي عن صمتها ، شيئ لابد منه،فعل قهري يفرض نفسه علي، فعل قهري يطلب مني أن أعجل بذلك، فالوقت أصبح ضيقاً و هناك بالخارج من يقفون وينتظرون حتى نفرُغ وننتهي من هذا اللقاء في خلوتنا بين جدران حجرة نومنا وعلى سريرنا، ولكن عيناها تقول لي لاتفعل ذلك..لاتفعل

كان كفيها الصغيرين مازالا مطبقين على كفي ولكنهما قد إسترخيا وأصبحا باردين، رفعتُ كفيها لأعلى قبلتُهما وببطئ ورفق شديد وصعوبة بالغة طاوعتني يدي وهي مكرهه على هذا الفعل، فككت أصابعي من بين أصابعها ، إنسلت يدي من بين يديها، مددتُها إلى وجهها أتحسس ملامح وجهها للمرة الأخيرة وكأنني أحفرها في عيني وعقلي وقلبي أحفرها في ذاكرة الساعات والأيام والليالي والسنوات العجاف القادمة ،فعلت ذلك وهي تنظر لي بعينان نظرتهما ثابتة لايرف لهما جفن، تبعث لي بمدد متصل غير منقطع ، أسدلت لها جفنيها فبدت لي كأنها نائمة لتؤكد لي أنها بحق ملاك من السماء، نطقت شفتاي قلت لها لو جاء العالم كله منذ بدء خلقه حتى هذه اللحظة وجلس مكاني هنا على طرف سريرك ورأى منكِ ما أرى الأن لأجمع العالم وشهد إنسه وجنه وملائكته وكتبه ورسله أنكِ ملاك من السماء كان يحيا معي هنا على وجه الأرض، قبلتُ جبينها ووجنتيها ، وضعتُ فمي في فمها قبلتُها قبلة طويلة إمتزجت بمرارة قلبي وملح دمعي المنهمر، أحتضنتها بين ذراعي، ضممتُها لصدري بقوة وقد أجهشتُ في بكاءِ عالِ يهز كل جسدي يكاد أن يقتلع ضلوع صدري وقلبي من مكانهما، حاولت جاهداً أن أتكلم ولكن أنفاسي المتحشرجة وأسناني التي تصطك ببعضها من فرط حزني وبكائي جعلت كلماتي تخرج مختنقة..متقطعة..متعثرة..متبعثرة.. حبيبتي.. أنتِ ..أجمل..نساء العالمين ...في عيني وأنتِ... أجمل ما أنـجبته الحياة... من أجلي .... وأنتِ خير جليس... على ...عرش قلبي حتى .. ألحق بكِ

مر بنا الوقت وأنا لا أدري كم منه مضى حتى دخل علينا من طال إنتظارهم خارج باب حجرة نومنا حاولوا أن يفصلوا بيننا أن يسحبوا عمري وروحي من بين ذراعي صرخت فيهم ترجيتهم ألا يفعلوا بنا ذلك، أن يكفوا أيديهم عنا ، ترجيتهم أن يتركونا لشأننا ، أن يتركونا قليلاَ ولو لبضع دقائق ، فبضع دقائق ليست بشيئ مقابل سنوات طوال ستأتي رياحها علي بكل خريفها وقسوتها ووحدتها ووحشتها وهي ليست معي ، وقتها سأتمنى تلك الدقائق ،سأتمنى أن أراها وأضمها لصدري ولو لمرة واحدة ، إستحلفتهم بالله ، لكنهم لم يستجيبوا لتوسلاتي ودموعي .. قالوا لي يكفي هذا فلم يعُد هناك وقت وقد آن لها أن تستعد للرحيل ،وإكرام الميت دفنه، وبعد مقاومة عنيفة مني وأنا أجاهدهم، خارت قواي ، ضعفت مقاومتي ، إستسلمت لهم أدركت أن الملاك قد آن له أن يعود إلى السماء، فالملائكة لاتمكث كثيراً على الأرض .

تمت
حسن أرابيسك

16 دورك في الفضفضة:

موسى السوري said...

بوح عذب وجمل أدبية تضاع بأسلوبك العذب ..تحياتي لقلمك المبدع وعزفك المنفرد الذي أخذنا بعيدا عن حياة العذوبية بلحظات دافئة ..

Carol said...

حسن
انتظرت قصتك
و تأثرت بها
لا تتكلم عن الفراق كثيرا فهو مؤلم يوقظ
ما تخبئه القلوب من ثقل
قصتك جعلتي اشعر بالبطل الحزين المحب
و ذكرتني بقصص مرت علي
___
وصفك لتلك اللحظة دقيق يترجم تفاصيل و مشاعر مكثفة
-----
و ده حسن ارابيسك أكيد هيكتب حاجة حلوة :)

hana said...

وما الفراق إلا أرجوحة ألم تبعث بنا للسماء

كي نلعق المر أنفاساً تتهاوى بالصدر
آلمتني كثيراً تلك الحالة بين الحبيبين

وكأنني آراها ما بين حرفك تتنفس الحياة فنعيش اللحظة

أبعد الله عنك كل الآلام حسن وأسعد قلبك الرقيق دوماً

كل الود والتقديريامبدع

وينكى said...

هاعيط :'(

hana said...

بونسواااااااار
إزيك يا حسن

يارب أكون أول حد قالك كل سنة وإنت طيب
:)
عييييد أضحى سعيد يا فنان

Unknown said...

الله الله الله...أحساس جميل جدآ حسيته وأنا بقرأ أحساس بالدفا ..بالسعاده..بالحنين ..بجد مش هعرف أوصف معناه..بس اللي عارفاه أنى تأثرت بكل حرف كتبته :)
كل سنه وأنت طيب وعيد سعيد عليك

someone in life said...

استاذ حسن
يا ترى ده من باب الابداع فقط و لا بجد ؟؟؟
الملايكة عايشه فوق عند رب العباد لكن المحظوظ اللي يزوره ملاك يسعد قلبه و يؤنس وحدنه
تحياتي

Unknown said...

دائما ما يشغلنا الرحيل
ولكن ليس الكل يستطيع التعبير عنه كما عبرت انت
تحياتي لك وكل سنه وانت طيب

hana said...

إنت فين يا فناااان
ياارب بخير

كريمة سندي said...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أعذوبة قرأتها هنا أخي في الله حسن

ما أجمل التشبيهات الضمنية والبليغة

وما أعذب ردك عندي واشكرك من كل قلبي على متابعتك لمدونتي المتواضعة ولقرائتك للموضوعات السابقة

اعتز بتشريفك لي دائما

Carol said...

كل عام و انت بخير يا صديقي :)

Unknown said...

و الله يا أبو علي يا عزيزي انا أكتر إلي أثر فيا اكتر من روعة الكلام ده هو فكرة إن العاشق مقدر صفات حبيبته لهذه الدرجة ولم ينعتها بالسذاجة او يسخر منها وفعلاً الملائكة لا تمكث بل أحياناً لا تنزل أصلاً إلى الأرض وإذا نزلت لا تجد للأسف من يعطيها قدرها ويحتفظ بوجودها .. دائماً مبدع يا فنان

حسن ارابيسك said...

موسى السوري
أشكرك وأقدرك على أسلوبك الجميل وتذوقك الأدبي بحس وثقافة عالية
تحياتي



كارول
صديقة التدوين العزيزة
أشكرك من كل قلبي وسأعمل بنصيحتك وعام سعيد عليكي وأعتذر عن التأخير
تحياتي


هنا
أشكرك من كل قلبي على تواصلك وسؤالك الدائم عني وإهتمامك الجميل بكل أشكال الأدب وأعتذر في تأخر تهنئتي لكي وعام سعيد عليكي وعلى كل أصدقاء المدونة وأهل مصر المحروسة
تحياتي



د.لؤلؤة
أشكرك من كل قلبي على تواصلك ورقتك وإحساسك بكل حرف وجملة في قصتي القصيرة المتواضعة وتعليقك هنا شرف لي
تحياتي


some one in life
أشكر هذا الإهتمام الجميل والحمد لله ان القصة نالت إعجابك سواء كانت عن حقيقة أو خيال
تحياتي


دمعاتي
صديق التدوين القديم والجميل وحشني واللهي وأشكر حضورك وتعليقك الجميل
تحياتي


كريمة سندي
صديقة التدوين الرائعة
أشكرك على مجاملتك وتعليقك يحمل لتلك القصة المتواضعة قيمة أدبية
تحياتي



عاليا حليم
صديقة التدوين الجميلة صاحبة النشاط الكبير والرائع في عالم التدوين وتسليط الضوء على كل ما هو جميل
سعيد بالطبع بتعليقك ويملئني فخر
تحياتي

سمراء said...

الملائكة لا تبقي على الارض كثيرا ولكنها تظل تحوم بذكرياتها مادمنا باقين على الارض الى أن نلتقي

سمراء

حسن ارابيسك said...

سمراء
الحقيقة رد جميل ومؤثر جداً وبليغ
اشكرك من قلبي على مشاركتك التي اعتز بها
تحياتي

Carol said...

أنت فين يا حسن يا ارابيسك من زمااان؟؟؟
بتغيييب كثير ما بين بوست و بوست
!!